تُخبرني إحدى الصديقات أنّها كانت تقف في وسط ساحة النور في طرابلس، وكانت تقوم بـ”سياحةٍ ثورية” مع عددٍ من أصدقائها. وقفتْ قليلًا معهم عند واحدة من زوايا الساحة، لتبادل أطراف الحديث عن أحوال البلاد. تقول: “للوهلة الأولى كنّا نتحدث بشكلٍ طبيعي، إلى أن لاحظتُ أنّ ثمّة شابًا يقف بالقرّب منّا مكتّف اليدين، ينظر يمينًا وشمالًا، ويُنصت إلى حديثنا. استغربت. ابتعدنا قليلًا، فعاد واقترب بأسلوب يظنّه متذاكيًا، ثمّ عرفنا أنّه مُخبر”.
جاسوسية بدائية وعضلات مفتولة
في الأيام الأولى من الانتفاضة الشعبية، ما بعد 17 تشرين الأول، كثرٌ في طرابلس لم يألفوا حضور “المخبرين”، لكنّهم غالبًا ما كانوا يُعرفون كما العلم اللبناني، وتحديدًا أولئك الذين يتولون مهمة التغلغل في الساحة، والوقوف فيها صامتين، من أجل مراقبة المتظاهرين ومتابعة تحركاتهم لتدوين التقارير إلى “مشغيلهم” الأمنيين.
جاءت هذه “الثورة”، وأكدت مرّة جديدة أنّ الأداء الأمني في تشغيل المخبرين على هيئة “جواسيس”، لا يزال تقليديًا وبدائيًا ومفضوحًا وموروثًا من أيام البعث وينقصه القليل من ذكاءٍ يبدو معدومًا. من سحنتهم يُعرفون. رجال وشباب، بعضهم مفتولي العضلات، وجمعيهم يتشاركون في لغة أجسادهم والتعبير عن أنفسهم: نهارًا، يضعون نظاراتهم الشمسية داكنة السواد، يتوزعون في الساحة ومتفرعاتها أفرادًا أو أزواجاً، يتسمّرون صامتين في نقطةٍ ما، يرفعون رؤوسهم قليلًا للأعلى، يضعون أيديهم في جيب سراويلهم تارةً، وينشغلون بهواتفهم تارةً آخرى، وطوال الوقت، يتلفتون ويدورون حول أنفسهم يمنة ويسرى.
هذا النوع من الحضور للأجهزة الأمنية في طرابلس، والذي شكّل هاجسًا كبيرًا في صفوف الثائرين والثائرات، لم يقتصر عند هذا الحدّ، ما بعد 17 تشرين الأول، وإنّما تمدد وأخذ أشكالًا أكبر وأخطر، لدرجةٍ يمكن القول فيها أنّهم “نجحوا” في تشكيل خرقٍ واضحٍ وملموسٍ لانتفاضة عاصمة الشمال. وهم يتسللون إلى الخيم والساحة وعند مفترقات الطرق المقطوعة. وما شهدته المعارك على “المنصة” المشؤومة، التي تحولت إلى وكرٍ للمخبرين كان خير دليل، لإفراز جماعاتٍ على هيئة أحمد باكيش الذي يجاهر بعمله كمخبر وعلى هيئة صاحب رتبة “مرجع عسكري” ربيع الزين وأزلامه (راجع المدن)، وآخرين لا يكفّون عن إدعاء الثورة والتسلّق على أكتافها بادعاءات الغيرة والحمية وحتّى الإنسانية وتقديم المساعدات المعيشية!
صندوق بريد
علاقة الأجهزة الأمنية مع مدينة طرابلس، لا تشبه العلاقة مع أيّ مدينة أو منطقةٍ أخرى في لبنان، منذ أن خُطّط لها أن تتحول إلى مدينة مرشحةٍ لتسلل النظام السوري وأدواته، ومن أيام مجموعات فتح الإسلام التي خاضعت معارك دامية ضدّ الجيش اللبناني في العام 2007، ومن ثمّ معارك جبل محسن وباب التبانة، إلى أنّ سوّقوا للمدينة كأنها على استعداد دائمٍ للتمرّد على سلطة الدولة وجيشها، من بوابة طائفية يعبرها الإسلاميون والمتطرفون الدواعش. هذا الواقع، جعل من طرابلس صندوق بريدٍ، وحلبةٍ خصبة لحضور ثقيل الوطأة للأجهزة الأمنيّة وصراعها. وهو بالمناسبة ليس حضورًا منسجمًا، لا بل متنافرًا ويأخذ طابعًا تنافسيًا فيما بينهم، وحتّى داخل الجهاز الواحد الذي أصبح على هيئة الأجنحة!
وفيما يسعى كلّ جهازٍ إلى فرض سيطرته وسطوته على أكبر شريحة وأوسع نطاق جغرافي في المدينة، لا مبالغة في القول أنّ دور الأجهزة الأمنية في طرابلس يتفوّق ويتقدّم على دور القيادات السياسية، لدرجةٍ أنّها قد تحتاج الأخيرة إلى غطاء الأجهزة من أجل تعزيز حضورها في المدينة ورفع أسهمها. وهو ما يظهر جليًا في انتشار اليافطات التي تخصّ بعض الأجهزة في توجيه التحيّة المباشرة لها، عبر تسمية عمداء وعقداء وضباط. ويبقي السؤال: هل تشتغل بعض الأجهزة في طرابلس أمنًا فحسب أم سياسة أيضًا؟
وفي وقتٍ تشير مصادر أمنية أنّ الأمن في طرابلس وضواحيها لا يزال ممسوكًا، يعيش أهل المدينة حالةً من التهويل الأمني الذي يترافق مع ضغط اقتصادي غير مسبوق، ارتفعت وتيرته مع ما شهدته طرابلس من افتعال مشاكل ومؤامرات ضدّ الجيش من قبل مجموعاتٍ “مشبوهة” ومعروفة الانتماء.
تهويل وتخويف
لا تهدأ عجلة الشائعات الأمنية في طرابلس، والتي تهدف إلى ضرب ثورتها وإعادتها إلى مربّعها الأول، كمدينةٍ معزولة ومفصولةٍ عن لبنانها. قبل فترة، حُكي أنّ ثمّة بذورًا لإعادة افتعال معارك بين الجبل والتبانة، بتحريض مذهبي وسياسي، وتحديدًا بعد أن خرج أحد “المندسين” وشتم أمين عام حزب الله حسن نصرلله. لكنّ هذه البذور التي لم تجد مكانًا لغرسها بين أهالي المنطقتين، ولم ينجح أصحابها في تعبيد طريق الفتنة التي فقدت أرضيتها. تتوالى الشائعات عن ضرب طرابلس أمنيًا، وغالبًا عن طريق علاقتها بالجيش اللبناني، وهو ما ظهر في “مسرحية” إعلان أحد الجنود انشقاقه عن الجيش على منصة ساحة النور، فواجهه أهالي المدينة بالتصدّي والرفض، بينما كان كاتبو سيناريو المسرحية ينتظرون تصفيق الناس له وتضامنهم معه، بهدف افتعال عداءٍ مع الجيش.
هذا التهويل والتخويف من فوضى أمنية واقتصادية تضرب طرابلس، بلغ حدود نشر شائعات عن احتمال لجوء متطرفين و”جهاديين” من سوريا ومن إدلب خصوصاً نحو عكار وطرابلس، علمًا أنّ لا حدود تُفتح لهم من دون غطاء النظام السوري وحلفائه. وفي الواقع، عاد الخطاب السياسي وتحديدًا لدى التيار العوني، بربط التأخر في الاستشارات النيابية لتكليف رئيسٍ للحكومة بتحرك “المناطق السنية” وشيطنتها سياسيًا بوصفها تعطلّ الاستشارات، بهدف دفع كرة النار إلى هذه المناطق، وفي طليعتهم طرابلس.
في الأمس، ومع احتدام الصراع السياسي على اسم مرشح رئاسة الحكومة سمير الخطيب، استمرت طرابلس في لفظه ورفض أيّ مرشح وتشكيلة حكومية تتآمر على الناس ومطالبهم، فجابت شوارعها مسيرات متعددة أمام بيوت السياسيين في المدينة، تأكيدًا على عدم قبولها بما يدبره قضر بعبدا. لكنّ مجموعات من أزلام النائب فيصل كرامي واجهت المتظاهرين بإطلاق النار، في ظلّ حضور كثيف للجيش. ومع ذلك، أصرّ كرامي على نفي وقوع الحادث!
أما السؤال اليوم، وقبل وقوع أيّ مفاجأة غير محسوبة إخلالًا بالأمن وترهيبًا للناس: من يريد إعادة لعبة الاستثمار الدموي في طرابلس التي أثبتت عدم حضانتها للإرهاب؟ وإذا كانت الأجهزة الأمنية تحظى بهذا النوع “المريب” من السلطة الواسعة في المدينة، ألا تتحمل مسؤولية مباشرةً في حمايتها من أيّ مخطط يستهدف أمنها؟