بإسقاط الاتفاق على تسمية سمير الخطيب رئيساً للحكومة، وظهور الرئيس سعد الحريري في موقع المواجهة مع رئيس الجمهورية والوزيرجبران باسيل، استعاد الحريري بعضاً من مكانته وسط “الجماعة” السنّية كما بين مؤيديه. فهذا الوسط تفلّت منه في الأيام الماضية عندما أعلن موافقته على دعم سمير الخطيب بشروط باسيل وحزب الله. إذ أسهم موقف الحريري الملتبس بوقوع البيئة السنية في تجاذبات وحزازات متعددة. وهي تجاذبات مستمرة منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، وما كرّسته من نتائج، أعادت إحياء الزعامات السنية المناطقية. فبدا المجال يسنح للكثير من الشخصيات السنية لتوسيع تمثيلهم أو مشاريعهم أو طموحاتهم. وقد صادف هؤلاء جملة ظروف تعزز تلك الطموحات وتغذيها، طالما أن هناك رفضاً شعبياً سنّياً متنامياً للخطوات التي يقدم عليها الرئيس سعد الحريري.
كسب القلوب والعقول
ومنذ اندلاع ثورة 17 تشرين، تبدو الساحة السنية الأكثر تأثراً بما يجري، خصوصاً أن الاحتجاجات في مناطق السنّة انخرطت فيها وجوه كثيرة من المؤيدين لتيار المستقبل والرئيس سعد الحريري، فكانت قلوبهم معه وعقولهم مع الثورة المطلبية، ومن غير تناقض مع أهدافهم السياسية، التي تريد الخروج من التسوية التي أبرمها رئيس تيار المستقبل، وسحقتهم في السياسة.
تحركّت غالبية مدن السنّة ضد التسوية وضد العهد، وللمطالبة حتى بإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، التي اعتبروها دوماً حكومة جبران باسيل وحزب الله. وهي الحكومة التي كرست تهميش موقع الرئاسة الثالثة وصلاحياتها. فكانت التظاهرات والاعتصامات القوية في طرابلس وعكار وبيروت وصيدا والبقاع. طبعاً، غالبية جمهور هذه المناطق هم من مناصري تيار المستقبل، ولاحقاً قيل إن الحريري أراد استعادة هذا الجمهور واللعب على عاطفته لاستعادة شعبيته وقوته وتحسين موقعه.
المشكلة المزمنة
استمر حال السخط في الساحة السنية، شعبياً وسياسياً. شخصيات عديدة أعلنت معارضتها لخيار الحريري، خصوصاً بعد إعلانه تأييده لسمير الخطيب وتكليفه برئاسة الحكومة من قبل جبران باسيل ورئيس الجمهورية، وما حملته التسمية والمشاورات التي رافقتها، من تجاوزات للطائف ولموقع رئاسة الحكومة، بمنطق رفض التأليف قبل التكليف. وهي المشكلة المزمنة التي يعانيها الحريري منذ دخوله في التسوية الرئاسية، وإيجاد نفسه مطوقاً ومحاصراً بمطامع باسيل. حتى وصل فيه الأمر إلى حدّ الإنفجار قبل فترة، فعقد مؤتمراً صحافياً للتمسك بصلاحياته ورفض الاعتداء عليها، لكنه عاد فيما بعد وجدد التسوية.
منذ نحو عام والسنّة يواجهون بعضهم البعض. واليوم يبدو أن الحريري يحاول إرضاء الطائفة بما يحقق انسجامها السياسي في ضوء الانتقادات التي شنّتها شخصيات سنية على المرشح المفترض لرئاسة الحكومة، لا سيما بعد موقف رؤساء الحكومة السابقين، وموقف نهاد المشنوق من دار الفتوى، التي قيل إنها لا تريد أن تتدخل أو تتخذ أي موقف مؤيد أو معارض للخطيب، وسط معلومات تتحدث عن رفض الدار تحديد موعد للخطيب. هذه المواقف الاعتراضية لا تنفصل عن مواقف للعديد من المشايخ السنة الرافضة للاستشارات النيابية وما ستؤول إليه. يضاف إليها بيان اتحاد العائلات البيروتية الرافض لتكليف الخطيب، طالباً منه الإنسحاب، وقد دعا البيان إلى مقاطعة الاستشارات النيابية. وهذا الاتحاد له رمزية سياسية بالنسبة إلى آل الحريري، فمؤسسه هو رفيق الحريري كتعويض عن صعوبة العمل الحزبي في العاصمة أثناء عهد الوصاية السورية.
يمثّل بيان العائلات الموقف الأعنف في رفض الخطيب، وتجوز التساؤلات حول الدوافع وراء إصداره، وهل كان منسقاً مع الحريري أم لا؟ لا جواب واضحاً هنا، رغم تأكيدات بأن الحريري لم ينسق مع العائلات البيروتية.
ساعات الضياع
وُضع الحريري في موقف لا يحسد عليه، في ظل العلاقة السيئة مع عون وباسيل وحزب الله. وهو بالتأكيد لا يريد حرق كل المراكب مع الحزب وعون وباسيل، لأن ذلك سيدفعهم إلى الانتقام منه وتصفية الحساب معه الآن ومستقبلاً. لكنه أيضاً لم يعد قادراً على تقديم التنازلات ومسايرة عون وحزب الله بخلاف توجهات شارعه وبيئته. وهو لا يريد ان يستمر بصورة الأسير لدى عون وحزب الله والمساهم في إضعاف السنة وموقعهم.
لبنان أمام ساعات من الضياع والضبابية، وسط استمرار التحركات الاحتجاجية وتصاعدها، مقابل بحث القوى السياسية على أي صيغة للتوافق. والاستشارات آيلة للتأجيل والإلغاء. وعون سينفعل كثيراً إذا ما تأجلت الاستشارات، سواء بسبب قطع الطرق أو بامتناع نواب عن المشاركة فيها. وبالتالي، خروجها بمشهد هزيل. وهو أصبح يعتبر نفسه خارج الاتفاق مع الحريري، ويفضل عون تسمية شخصية موالية له. لكن حزب الله هو الذي يرفض ذلك متمسكاً بمبدأ تأمين الغطاء السني المناسب لأي حكومة جديدة.
بانسحاب الخطيب وإعلانه دعم الحريري لتشكيل الحكومة، يكون الأخير قد سجلّ نقطة لصالحه، وقطع الطريق على أي مرشح غيره لرئاسة الحكومة. لكن ليحقق مراده، هو بحاجة إلى أصوات نواب حزب الله والتيار الوطني الحر. وهؤلاء لن يمنحوه أصواتهم من دون اتفاق مسبق معه، على شكل الحكومة ومضمونها. وبالتأكيد، مبدأ خروج باسيل من الحكومة قد سقط. إذ سيتمسك بالعودة إليها طالما أن الحريري يترأسها.
هكذا، يستمر أهل السلطة بتضييع الوقت إلى حين ما يعتبرونه توافر ظروف إقليمية ودولية تعيد إنتاج التسوية ذاتها. ومن دون إغفال أن كل ما يجري يمثل تقاطع مصالح بين قوى السلطة – رغم اختلافاتها – بهدف تطويق الثورة ومحاصرتها وشرذمتها. وهذا ما تجلى في الاتصالات الليلية التي حصلت بين الرؤساء لتنسيق المواقف والبحث عن مخرج.