فتى الضاحية ثائراً بين الخندق الغميق وجسر الرينغ

11 ديسمبر 2019
يشعر حسين في الثورة وكأنه يعيش في فيلم سينمائي يود ألا ينتهي
يشعر حسين في الثورة وكأنه يعيش في فيلم سينمائي يود ألا ينتهي
beirut News

محمد أبي سمرا كاتب وصحافي لبناني

حلقة ثالثة وأخيرة من يوميات حسين، الشاب العشريني الذي غادر منزل أهله بالرمل العالي في 17 تشرين الأول، ولم يعد إليه حتى اليوم. 

في يوم “الثورة” الخامس قررت مجموعة من “الثوار” إقفال جسر الرينغ وتعطيل السير عليه. فحمل حسين خيمته من ساحة الشهداء ونصبها على الجسر. كان أحد الشبان يفرش أقلام التلوين على الإسفلت ويرسم عليه أشكالاً ويلونها بين الخيم الأولى والطاولات والكراسي التي وضعها المعتصمون هناك. أعجب المشهد حسيناً، وراق له الجو والمكان الفسيح، فعزم على البقاء والنوم في خيمته هناك. في اليومين التاليين تكاثرت الخيم، وعلم أن مخيمين جدداً جاؤوا من جل الديب داعمين متضامنين. وراحت المحطات التلفزيونية تنقل مشاهد المعتصمين، وأجرت راشيل كرم مراسلة تلفزيون “الجديد” مقابلة مع حسين، فقال لها وقالت إنه من أول المخيمين على الجسر.

رجل “فان” الخندق الغميق
أخذ يتكاثر المعتصمون والمعتصمات على الرينغ في الأمسيات، ساهرين وساهرات حتى ما بعد منتصف الليل، فيتناقشن/يتناقشون في أمور “الثورة”، منشدين/منشدات شعاراتها وأغانيها. لكنهم غالباً ما كانوا يغادرون/يغادرن في ساعة متأخرة من الليل إلى بيوتهم وبيوتهن، فيمكث في الخيم حسين وأمثاله، وينامون فيها. هو وشبان من الطريق الجديدة والخندق الغميق والجبل كانوا المجموعة الأساسية المداومة على البقاء في المخيم، وأقاموا على مسافة من الخيم، في ناحية الأتوستراد المؤدي إلى نفق فؤاد شهاب، حاجزاً يرشد السيارات الآتية من النفق ويُعلِم سائقيها أن الجسر مقفل. وكان بين شبان الحاجز رجلٌ من الخندق الغميق في حوالى الخامسة والثلاثين من عمره. وروى حسين أن هذا الرجل قرّر، صبيحة نهار استقالة سعد الحريري وحكومته في 30 تشرين الأول، أن يغادر قائلاً إنه يريد العمل على “فانه” لنقل الركاب، كي يحصّل ما يقوم بأود أسرته. وبعد ساعة أو اثنتين عاد يقود “فاناً”، فمنعه طليعة المعتصمين على الرينغ من المرور، فغضب وجنّ جنونه ودار بينه وبينهم شجار أدى إلى تحطيم نافذة الفان.

في الساعة الثانية بعد الظهر، عاد سائق الفان إياه، مستنفراً شبان الخندق الغميق، وهاجمين على الرينغ. كانوا حوالى 200 فتى وشاب راجلين وعلى دراجاتهم النارية، فاقتلعوا حاجز المخيمين المتقدم وضربوا شبانه، ثم تقدموا نحو حاجز القوى الأمنية لمكافحة الشغب. حسين وعدد من الفتية والشبان من أمثاله – معهم الممثل التلفزيوني عبدو شاهين البعلبكي، أحد شخصيات مسلسل “الهيبة” – حاولوا التفاهم مع المهاجمين وثنيهم عن التقدم. لكن رجال مكافحة الشغب منعوهم من ذلك. لكن حسين وشابين معه تمكنوا من الوصول إلى المهاجمين الذين قال من يتقدمهم إنهم يريدون تأديب من كسر زجاج نافذة الفان. “الجميع هنا على الرينغ، أخوة وكلنا في الثورة معاً، وسوف نأتي بمن كسر النافذة للاعتذار منكم، فنكسر الشرَّ وننهي المشكلة”، قال حسين لمن يتقدم المهاجمين، فأجابوه: “كرامتكم لن نكمل الهجوم، وسوف ننزل إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح ونحطم الخيم هناك”.

وردة وصفعة على الجسر
في هذه اللحظة تقدمت من المهاجمين امرأة في الأربعين من عمرها، حاملةً سلة ورد كانت توزع ورودها على معتصمي جسر الرينغ. تناولت المرأة وردة من سلتها، وقدمتها لأحد المهاجمين قائلة له: “أعطِ هذه الوردة لخطيبتك”. ظن المهاجم الشاب أنها تسخر منه، وبدل أن يتناول الوردة منها، صفعها على وجهها صفعةً قوية، فراحت تبكي منتحبة. وهذا ما حمل حسين وصحبه على الاشتباك اشتباكاً صغيراً وعابراً مع بعض المهاجمين، قبل مغادرتهم جميعاً متجهين نحو ساحة الشهداء. ولما حاول حسين ومجموعته المؤلفة من نحو 15 شاباً اللحاق بهم، للتوسط وأياهم وحملهم على عدم متابعة هجومهم، منعهم رجال مكافحة الشغب من ذلك.

موقعة الساحتين
وروى حسين أن المهاجمين وصلوا إلى ساحة الشهداء، فحطموا الخيم، واعتدوا على المعتصمين بعنف، ثم هاجموا مخيم ساحة رياض الصلح، حيث كان معظم المعتصمين من الشيعة – بحسبه – قبل أن يأمر السيد حسن نصرالله في خطبته جمهورَه بالانسحاب من الساحات. وفي رواية حسين أن الهجوم على الساحتين، لم يستغرق أكثر من نصف الساعة، لكن الاعلام التلفزيوني ضخمه وجعله يستغرق ساعات ثلاث.

في ليلة ذاك النهار، راح رجال الأمن ومكافحة الشغب يقولون لمعتصمي جسر الرينغ: احذروا، شبان الخندق سيهاجمونكم، وعليكم الرحيل. لكن شباناً من جل الديب، جاؤوا ليلاً وانضموا إلى المخيم متضامنين. وفي صباح أحد النهارات التالية، جاء ضابط من قوى مكافحة الشغب، وأنذر المعتصمين بأن ينزعوا الخيم من وسط الأتوستراد، وإلا سوف يأمر عناصره بنزعها عنوة، فنقل المعتصمون الخيم إلى جانب الشارع، ونصبوها أمام بنك عودة، وأخذوا يمنعون السير على الجسر في الليل فقط، ويفتحونه في السادسة صباحاً، بعد إحيائهم سهرات عامرة بالغناء والهتافات والمناقشات، ليذهبوا صباحاً للنوم في بيوتهم.

لذا قرر حسين وصحبه ترك جسر الرينغ، فانتزعوا خيمهم وأخذوها إلى ساحة الشهداء، حيث نصبوها وراحوا ينامون فيها، مستنكفين عن المشاركة في قطع الطريق على الجسر ليلاً. بل قرروا أيضا منع الساهرين من قطعها. وكان العائدون إلى ساحة الشهداء حوالى 50 شاباً من العاطلين عن العمل من مناطق وأحياء كثيرة: الضاحية الجنوبية، والجبل، وجل الديب، وبعلبك.

ليلة الهجوم الكبير
في النهار الذي سبق ليلة هجوم جموع غفيرة من شبان الخندق الغميق وأحياء ضاحية بيروت الجنوبية على جسر الرينغ وعين الرمانة، كان حسين في ساحة الشهداء يشارك في الرقص والغناء بين المعتصمين، بعد تظاهرة اعتصم المشاركون فيها أمام جمعية المصارف. أثناء الاعتصام في ساحة الشهداء، صعد إلى المنصة شخص من “المقاومة المدنية – حزب سبعة” ودعا الشبان والصبايا إلى التظاهر على جسر الرينغ وإقفاله. وروى حسين أن أحد المعتصمين الذين توجهوا إلى الجسر شتم السيد حسن نصرالله. وهناك من يقول إنه مندس، وقد يكون من شبان الخندق الغميق إياهم، وتوجه بعد شتيمته إلى الخندق ودب الصوت هناك محرضاً. فجمع تحريضه شباناً وفتياناً كثيرين، ساروا في هجومم الكبير على معتصمي الرينغ الذي استمر حتى ساعة متأخرة من الليل.

أثناء ليلة الهجمات الكبيرة تلك على الجسر، وصولاً إلى الصيفي والجميزة وتحطيم نوافذ البيوت وزجاج السيارات في الحيين، قام شبان الضاحية الجنوبية بهجوم على عين الرمانة. كان حسين بين المعتصمين والمعتصمات على الرينغ. فتعرف إلى صبية خائفة وسط الهجمات العنيفة. كانت من بعبدا، وفي الخامسة والعشرين من عمرها، وتعمل في التصوير والإخراج السينمائيين. فقال لها حسين أثناء الكر والفر الليليين على الجسر: مهاجمو الضاحية والخندق الغميق يشتمون “الثورة”، وبعض “الثوار” يشتمون السيد حسن نصرالله، ما لنا ولهم. فما رأيك أن نذهب إلى الخيمة في ساحة الشهداء. وهكذا صارت المصورة المخرجة من رفاق حسين في “الثورة”، وراحا يكثران من حضور الندوات والمناقشات في ساحاتها.

بعد موقعتي الرينغ وعين الرمانة وما ساد بعدهما من خوف من احتمالات نشوب مواجهات أهلية وطائفية، وقيام مسيرات سلام ومحبة شاركت فيها أمهات ونساء من عين الرمانة إلى الشياح، ومن الرينغ إلى الخندق الغميق – تزايدت أسئلة زميلة حسين في “الثورة” عن احتمال نشوب حرب أهلية ومخاوفها منها، فأخذ يطمئنها قائلاً لها: مستحيل، مستحيل. إذا قرر السنّة الدخول مع الشيعة في حرب، من أين يأتون بالسلاح لمجابهة “حزب الله” وسلاحه ومقاتليه الشرسين؟! لكن زميلته أخذت تلح عليه بالسؤال: إذا حصلت معارك أهلية وطائفية، مع من تقف أنت يا حسين، وهل تظل مع “الثورة” والثائرين؟! كان جوابه أنه من اليوم الأول في الثورة، ولم يغادر ساحاتها، وسيظل فيها حتى يومها الأخير. والحق أن حسين لا يزال في خيمته في ساحة الشهداء، ويشارك في التظاهرات والاعتصامات التي تتنقل يومياً في شوارع بيروت.

وفي أحد النهارات اعتقل حسين لأيام ثلاثة، فاقتيد إلى مخفر الدرك قرب الأونيسكو، ثم إلى مخفر للشرطة العسكرية قرب المدينة الرياضية، قبل نقله إلى مخفر حبيش، وإطلاق سراحه، فاحتفل رفاقه بخروجه أمام المخفر.

خارج معاقل البطالة الكئيبة
حين التقيت حسين في مسيرة السلام والمحبة التي قامت بها أمهات ونساء من جسر الرينغ إلى الخندق الغميق، كان يسير فرحا ومسروراً بنساء الخندق اللواتي يرمون الأرز والورود من شرفات بيوتهم على المتظاهرين والمتظاهرات في حيهم، ويلوح إليهن بيديه، يدعوهن إلى النزول والمشاركة في التظاهرة.

وفي روايته يومياته في “الثورة” قال: منذ يومي الأول في هذه “الثورة” يتيهأ لي أنني في فيلم سينمائي أود ألا ينتهي. فيلم جميل تعملت فيه الكثير، ورافقت كثيرين. منهم من الطريق الجديدة، ولم التقِ بهم منذ كنت زميلاً لهم قبل سنوات عشر على مقاعد مدرسة “الأرغواي” المهنية قرب مستشفى المقاصد، فاستأنفت صلتي بهم في “الثورة”. ومنهم من تعرفت إليهم من دون معرفة سابقة، والتقيت بهم وبصبايا كثيرات رحن يشجعنني على الكلام في الندوات الكثيرة في ساحة سمير قصير، وساحة العازارية.

لم أسأل حسيناً ماذا يمكنه أن يفعل في النهاية، في حال مغادرته خيمته ويومياته في ساحات “الثورة”؟ هل سيعود إلى بطالته وكآبته في بيت أهله في الرمل العالي، أم سيعاود البحث عن عمل ما، كما فعل طوال شهر سبق 17 تشرين الأول الماضي؟ أمضى أيام ذلك الشهر يدخل إلى شركات ومتاجر كبرى ومؤسسات كثيرة، سائلاً تشغيله فيها أي عمل، ووصل تجواله في بحثه ذاك إلى جونيه، لكن بلا جدوى.

أخذت “الثورة” حسين، وأدخلته في يوميات عالم جديد باعد بينه وبين أيام حياته السابقة في الرمل العالي. من المؤكد أنه تغير كثيراً واختبر علاقات ومعاني وأفكاراً جديدة. ومن المؤكد أن لبنان اليوم غيره ما قبل 17 تشرين الأول المنصرم.

لكن هل سيؤدي هذا التغير إلى تبدّل أحوال حسين وأمثاله، فيجدون لحياتهم مكاناً وسياقاً جديدين خارج معاقل البطالة والكآبة في الضاحية الجنوبية والخندق الغميق؟ من يدري؟