لا يفقد جبران باسيل حيلة. كلما خسر ورقة استنبط أخرى. لا مقياس لديه لمضمون الورقة أو جديتها وفعاليتها. الأهم بالنسبة إليه سبقها “الإعلامي والإعلاني”. هو أكثر من أجاد استخدام الإعلام السريع لقطف ثمار دعائية. ولولا الدعاية لما حقق الرجل كل ما حققه بالشارع المسيحي. طبعاً، الكلام هنا بعيد عن دعم حزب الله كقوة أساسية له مكّنته في السياسة. لا مشكلة لدى الرجل في رمي الموقف كيفما كان. يعلم أن الناس تلتقط الموقف الأول، ولا تسأل فيما بعد عن حقيقته أو صوابيته. وهذا “علم” قائم بحد ذاته، حول كيفية تشويش العقول، بعامل الدعاية. فيأخذ الناس، وتحديداً المناصرون ما يُعلن، وليس ما يحدث. ففكرة الإعلان الأول تترسخ في عقولهم.
دعائية مفرطة
ولباسيل أقران كثر في تياره، يسيرون على درب هذه اللعبة الدعائية. وزيرة الطاقة ندى البستاني، كذلك، عندما أعلنت أنها ستنهي أزمة المحروقات باستيراد نسبة 10 بالمئة لصالح الدولة اللبنانية. قدّمت الوزير الصورة كأنها أنهت احتكار الشركات وكسرت كارتيلاً كان قائماً منذ سنوات، بنسبة 10 بالمئة فقط. وأخذ الناس الفكرة بكل سذاجتها وضحالتها، لأن العامل الدعائي هو الذي كرّس هذا “الخلاص”. لتكون النتيجة في النهاية، أن مناقصة وزارة الطاقة لم تكن أكثر من إدخال شركة جديدة إلى كارتيل الشركات. لكن التيار الوطني الحرّ يحبّ دوماً أن يكون مخلّصاً، والناس في موقع البساطة والاندفاع والحاجة إلى أي بريق أمل، تحتاج دوماً إلى مخلّص. فيقع التهافت هنا بين السلطة والمجتمع.
لا يترك باسيل فرصة لاستخدام دعائيته المفرطة. فمنذ مساء الثلاثاء بدأت ماكينة التيار الوطني الحرّ ضخاً إعلامياً دعائياً، بأن باسيل سيفاجئ الجميع، والتمهيد لإعلان مقاطعة الحكومة وعدم تسمية أي رئيس لتكليفها. بمعنى أوضح أن تكتل لبنان القوي لن يشارك في حكومة يترأسها الحريري، ولن يمنحه أصواته في الاستشارات. وبينما قبل أيام قليلة فقط كان باسيل مصراً على عودته مع تياره وبأسماء نافرة، ووضع معادلة رأسه مقابل رأس الحريري، يتجه تكتل باسيل إلى عدم تسمية الحريري بالاستشارات. ما يعني أن تكليفه سيكون هزيلاً وضعيفاً. وإذا ما خرج باسيل وتياره من الحكومة، يستحيل على رئيس الجمهورية أن يلتزم بشروط الحريري. أي إما أن مساعي التأليف ستطول، أو أن الحريري سيقدم التنازلات اللازمة، خصوصاً أن حصة التيار الوطني الحرّ ستؤول إلى رئيس الجمهورية.
تلبّس المعارضة والشارع
بحث باسيل مع حزب الله مسألة عدم مشاركته في الحكومة، وكان مصرّاً عليها، بينما الحزب كان قد رفع سقفاً أساسياً للتعاطي السياسي مع التحركات والإحتجاجات، في أنه ممنوع تغيير نتائج الانتخابات النيابية. ولذا، خروج التيار الوطني الحرّ من الحكومة سيمثل إنقلاباً على تلك النتائج. ولا شك أن حزب الله سيكون محرجاً، ولكن بالتأكيد أي قرار يتخذه باسيل بهذا الخصوص سيكون مطبوخاً مع الحزب. والأكيد إذا ما طال التأليف، سيبدو باسيل وكأنه زاهد بالسلطة، ويرفض المشاركة في الحكومة، في حين أن حزب الله وحركة أمل رفضوا ذلك، لانهم يحرصون على حكومة وحدة وطنية، بما يضطره حينها للعودة.
وبذلك، يعلن باسيل أنه الوحيد الذي استجاب لمطالب الناس بخروجه من الحكومة، وانتقاله إلى معارضتها وليس معارضة العهد، (هذا أيضاً جزء من الدعائيات اللامنطقية)، وبالتأكيد سيلتحق أكثر حينها جمهور التيار الوطني الحرّ بالشارع لإعادة توجيه فحوى التظاهرات والاحتجاجات، ولإعفاء نفسه من تهمة الفساد أو المشاركة مع الفاسدين. وأساساً، عملية اختراق المتظاهرين قد بدأت قبل فترة من قبل التيار الوطني الحر، واعتباره أن مطالب الناس من مطالبه وهو قد سبقهم إليها، ومن قبل حزب الله وجماعات موالية له كذلك.
فيتو وعقوبات؟
ويريد باسيل لهذه الخطوة، أن تجعله ضحية “السلطة وتركيبتها” وضحية “الضغوط الدولية على لبنان”، فيقدم نفسه كضحية على مذبح المخاض الذي تمرّ فيه البلاد، خصوصاً بعد تأكده من أن هناك فيتو دولي عليه، ولم يتمكن من إزالته في ظل الإصرار على تشكيل حكومة من دونه، لأنه لم يشأ أن يضحي بنفسه فقط وتمثيل تياره، اختار الذهاب إلى المعارضة في خطوة استعراضية. وحينها سيصوّر باسيل نفسه كمستهدف من القوى الدولية التي تتدخل بالشؤون الخارجية. وصحيح أن باسيل استند في مسيرته السياسية على دعم حزب الله وقوته، بينما الحزب كان بحاجة دائمة إليه باعتباره يمثّل الغطاء المسيحي الأوسع. واليوم حزب الله يتمسك بهذا الغطاء ويستمر بتأمين الرعاية لباسيل، لكنه أيضاً بحاجة إلى غطاء سنّي يؤمنه الحريري، لا سيما بعد فشل باسيل في علاقاته الدولية، والتي انعكست سياسياً، وقد تنعكس أيضاً بالمزيد من العقوبات على حلفاء الحزب.
يراهن باسيل في دعائياته هذه، على تدخل حزب الله والرئيس نبيه برّي لرفض خروجه من الحكومة. وهذا تجلى في الرسالة التي حمّلها رئيس مجلس النواب إليه مع أحد النواب، مشيراً إلى أنه يرفض خروج مكون أساسي من التركيبة الحكومية. هنا لن يعود أي مجال أو قيمة لما سيحصل لاحقاً، سواء بقي باسيل على قراره خارجاً، ولكن حصته محفوظة من حصة رئيس الجمهورية، أم عاد وشارك في الحكومة، لأنه سيدعي أنه زهد بالمواقع، واضطرته موجبات التوازن والتركيبة والوحدة الوطنية للعودة إلى السلطة.