بتول خليل
خلال دراستي الجامعية، دفعتني مقولة صادمة لأحد أساتذتي بأنّ “العدو الإسرائيلي قوة رحيمة مقارنة بتاريخنا الإجرامي في حق بعضنا البعض”، إلى نبش مقالات وتقارير والكتب عن كلّ ما يتعلق بصراعات الساحة اللبنانية في التاريخ الحديث، لأكتشف أن حرب الأخوة، التي جرت بين تنظيمات وأحزاب وقوى من الطائفة والمذهب نفسهما، بل والثقافة والمنطقة وحتى البيت الواحد، لا سيما حرب التصفيات بين التنظيمات الفلسطينية والاغتيالات وحرب الالغاء المسيحية، كانت الوحشية فيها أبشع وأكثر تجلياً.
لكن أكثر ما هالني وقتها اكتشافي، أن حرب الأخوة بين “حركة أمل” و”حزب الله” لم تكن أقل دموية وبشاعة، ولعلّها إحدى الحروب الوحيدة التي قتل فيها الأخ أخيه. وليس التعبير مجازياً هنا، إنما هو تعبير حرفي. إذ شهدت هذه الحرب على أنّ الأخوة، الذي تربوا وعاشوا في المنزل نفسه، ومن الأم والأب نفسهما، قتل أحدهم الآخر في تلك الحرب.
أهل الحروب والمعارك باتوا اليوم أنفسهم أهل السلطة والمسؤولين عنا، والذين تقف الثورة في مواجهتهم، فيما ندعمها بكل وجداننا وعقلنا. نحن الذين أخبرنا أهلنا بأنه، وحتى المستقبل القريب، كانت قداسة اسم الزعيم، أهم من حياتنا وأماننا وإحساسنا بإنسانيتنا وحقنا في التعبير. إذ كان يكفي لأي طرف، إذا ما اختلف مع أحدهم على موقف سيارة أو على سعر كيلو البطاطا، أن يصيح لرفاقه أو أبناء حيّه بأن فلاناً قد سبّ “الأستاذ”، وهذا هو المفتاح السحري وكلمة السرّ لإهدار دمه وممتلكاته وسحق روحه وعجن جسده.
وهذه النغمة المعروفة استمرت بفاعلية لسنوات طوال، حين ألصقت هذه التهمة، التي كانت تُعتبر الذنب الأعظم والجرم الأكبر، بمئات الأشخاص الذين تحطمت محالهم وسُحقوا تحت الأقدام وتم سحلهم، ليس لأنهم بالفعل قد شتموا “الأستاذ”، إنما لمجرّد أن أحدهم قد نسب إليهم هذه التهمة التي لا تغتفر. وهذا النهج، الذي كان سائداً في أيام الحرب، استمر حتى في أيام الدولة في مناطق نفوذ “حركة أمل” ومحيطها، خصوصاً في حيّ اللجا غربي بيروت.
حوادث بالعشرات بل بالمئات وثّقت في سجّل الحركة وأنصارها. ويُحكى أنه أثناء أحداث السابع من أيار، وفي حين كانت عناصر “أمل” تجتاح البيوت وتحرق المراكز الحزبية وترتكب السرقات والتجاوزات، التي كانت أكثر من تُحصى، وباتت معروفة وموثّقة، اتصل أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله، برئيس مجلس النواب، نبيه بري، قائلاً له إنّ ممارسات بعض العناصر غير مقبولة، وإنه كان من المفترض إبعاد هؤلاء الشبيحة والزعران عن المشاركة في هذه المعركة. فما كان من بري إلا أن سارع إلى الرد: وراس الإمامو علي يا سيّد، نزلتلك عالشارع خيرة الأوادم والحجاج”.
فهل من أحد أخبر الثوار الذين توجّهوا إلى محيط عين التينة، ما يفعلون بأنفسهم؟ فالأحداث التي شهدتها منطقة فردان مساء أمس، أعادت إلى ذاكرتي نقاشنا القديم مع أستاذنا الجامعي حول القوة الرحيمة. وأدركت كم كان حرس قصر عين التينة رحيماً ومسالماً وحضارياً في التعامل مع المتظاهرين. إذ إن مجرّد تهشيم وجه أو تحطيم أسنان أو تكسير سيارات وزجاجها، يُعبّر فعلاً عن أقصى درجات ضبط النفس والتعامل الحضاري من قبلهم، هم الذين عاملوا المتظاهرين بالاسلوب الألطف، لمجرّد أنهم تركوهم على قيد الحياة، بعدما اشتبهوا في أنهم قد يتوجهون إلى مقرّ الأستاذ، في حين أنّ عين التينة لم تكن وجهتهم أساساً، بل صودف مرورهم في محيطها وتلقوا نصيبهم من الاعتداء لمجرّد الشبهة.
أما الشامتون، الذين علت قهقهاتهم في مواقع التواصل تجاه المتظاهرين السلميين، الذين تمّ الاعتداء عليهم، فإنّ كلامهم نابع من خلفيات مفهومة، كونها ممزوجة بالإحساس بالتفوّق وفائض القوة والحقد. في حين أنّ مواقفهم الشامتة تُمعن في تعريتهم من إنسانيتهم ومواطنيتهم، وتُعبّر عن تحقير ذاتهم مقابل تعظيم الزعيم والقائد، الذي سقط مفهومه في معظم أرجاء العالم الحر، ولم يعد موجوداً سوى في بضعة بقع سوداء في خريطة هذا الكون، في أماكن مثل كوريا الشمالية وإيران وسوريا وهنا في لبنان، حيث أن الوطن والشعب يفدون الزعيم وخلود بقائه وتعظيم شأنه، ومراعاة شعوره وتجنّب إزعاجه بنقدٍ أو صرخة وجع. هنا تُسحق شعوب وتهدم أوطان، فقط كي يرتشف الزعيم قهوته بهدوءٍ كل صباح.
ومن لم يبلّ يده بالمتظاهرين أمس قرب عين التينة، استلحق نفسه عبر مواقع التواصل، ليساهم بمزيد من التعنيف والاستهتار والسحق والشماتة والسخرية، والإصرارعلى مخاطبة مواطن مثله، يعيش على الأرض نفسها ويقاسمه المعاناة والهموم ذاتها، بالتوجه إليه من أعلى إلى أدنى، وبخطاب القوي إلى الضعيف.
هؤلاء ومن هم على شاكلتهم، يسرحون ويمرحون أمام الكاميرات وأجهزة الأمن، ممعنين في ضرب المتظاهرين وشجّ رؤوسهم ومطاردتهم بالهروات وسلب ممتلكاتهم وحرق خيمهم، من دون أن تقول لهم السلطة “يا محلا الكحل بعينك”! بينما تشحذ الأجهزة الأمنية همّتها وتشدّ أزرها في ملاحقة المتظاهرين والقبض على من يتسنّى لها، لتزجّهم في السجون لأسباب وأفعال تُعتبر في مقياس الثورة أقل من تافهة. كلّ هذا الصيف والشتاء تحت سماء لبنان الواحدة.
وكلّ هذا، وهناك من لا يزال يسأل: لمَ الثورة؟! ولمَ الإصرار على التمسّك بها؟!
وهي التي لا نرى فيها سوى أملنا وخشبة خلاصنا الوحيدة.
يا ماماااا ثنانننني واووووووا وديني عند الطبيب 🤪😂😂
المشهد مبكي هنااا 🤭#عين_التينه pic.twitter.com/5tw5PgUz3g— Ꮍ🅞ᵐᶰA🇵🇸𝕏|| بِنت الأرض (@Y_O__M__N__A_1) December 11, 2019
هل رأيتم سحسوح #عين_التينه!؟
شوفوا كيف باس الأرض وتشقلب😂😂😂 pic.twitter.com/EPTXJAJCvj— حسن الدّر (@HasanDorr) December 11, 2019
ابتسمعوش الكلمة #إحتضان#عين_التينه https://t.co/3ZnV7tZ7x3
— أبو يوسف (@YounisKasim) December 11, 2019