في أثر مسيرتين
وكنتُ قد قرأت بياناً يدعو “أبناء الإمام القائد موسى الصدر، وأبناء روح الله الموسوي الخميني” إلى “مسيرة الوفاء لدولة الرئيس القائد نبيه بري”، لتنطلق الساعة 6 مساء الأربعاء إياه من محلة المشرفية في ضاحية بيروت الجنوبية، لـ”تحمي القائد النبيه ورجال حرس مجلس النواب المقاومين”: من ماذا يا ترى – فكرتُ؟ – سوى شد عزمهم في اعتدائهم الدامي على المتظاهرين والمتظاهرات في سياراتهم في شارع فردان؟ وقال البيان ان “مسيرة الوفاء” ستصل إلى قصر “القائد النبيه ورجال حرسه” في عين التينة.
وكنتُ قد علمت أيضاً أن تظاهرة احتجاجية ضد رئيس المجلس النيابي وحراس قصره في عين التينة، تنطلق من أمام وزارة الداخلية وصولاً إلى مجلس النواب في وسط بيروت. فعزمت على أن أشاهد مراقباً مستطلعاً “مسيرة الوفاء لدولة الرئيس القائد”، والتظاهرة الاحتجاجية عليه وعلى حراس قصره وشرطة مجلسه النيابي.
حول محميّة عين التينة
في السادسة مساء الأربعاء، خضت في سيارتي واحدة من حروب السير الضروس للوصول إلى المشرفية. هل تستأهل مشاهدة حماة “القائد النبيه” هذه الحرب؟ – فكرتُ. لكنني سرعان ما طويت السؤال مقرراً: أيامنا كلها حروب سير دائمة منذ سنوات في هذه البلاد، وهي مرآة عصاب أهلها العنيف الهذي والمنحط. وعند تقاطعات المشرفية، وتحت جسرها كان زحام السير خانقاً، لكن ليس من جموع لـ”مسيرة الوفاء”، ولا من مسيرة أصلاً. ففكرت أنني تأخرت، وسبقتني المسيرة ووفائي المستطلع. وقد تكون انطلقت في حافلات، إلى قصر “الرئيس القائد” في عين التينة، كي “تحميه” مع حراس قصره. فتابعت حربي السيّارة في الشوارع، متوجهاً إلى القصر في أطراف فردان.
درت دورة كاملة في سيارتي حول محمية عين التينة: شوارع كثيرة وأحياء سكنية ببناياتها الفخمة، بسكانها ومتاجرها ومؤسساتها وأعمالها، بدورة حياتها اليومية الكاملة، مزدانة بحواجز ومكعبات اسمنتية ملونة تلويناً منتظماً لا تعوزه الدقة، ومصطفة بانتظام سنتيمتري دقيق. وعلى مدخل كل شارع يؤدي إلى قصر الرئيس سياج حديد. طن من الحديد الملون بالأخضر الحركي “الأملي” القوي الفاقع بطلائه المصبّر كثيفاً، بل يصيح صدّاحاً مثل الزجليات الحركية في تمجيد الأستاذ القائد الرئيس “النبيه” في مهرجانات الولاء له وطاعته وعبادته الجماهيرية. لكن ليس هنا حول القصر في المنطقة المرموقة، بل هناك في ديار “المحرومين” الأبرار الذين يُحشَدون في أرض قفر بائرة جرداء، تتسع لحرمانهم وهيامهم المقهور والقهّار بقائدهم المفدى الذي غالباً ما يخاطبهم في مناسبات نادرة، مباشرة من خلف لوح زجاج سميك شفاف يقيه من الرصاص، رصاص الخونة والعملاء والأعداء.
ودرت دورة ثانية حول المحمية الواسعة في فردان لأتأكد من أن لا “مسيرة وفاء” وصلتْ لنصرة حراس المربع الأمني الكبير، في عنفهم على أعدائهم من المتظاهرين، الذين تجرأوا على العبور قريباً من محمية الأستاذ. ولما تأكدتُ من أن لا مسيرة وصلت، رحتُ أفكر مجدداً كيف يعيش الناس العاديون في محمية الرئيس القائد؟ وكم تدنّت أثمان شققهم الفخمة وأسعارها في السوق العقاري؟ وكيف يمضون نهاراتهم ويدخلون إلى منازلهم في سياراتهم ويخرجون إلى أعمالهم ومشاغلهم اليومية، ويصبرون صبراً أيوب على الذل والهوان الغاضبين في دخولهم وخروجهم الأمنيين المراقبين، واللذين ينظمهما رجال المحمية تنظيماً دقيقاً؟! وفي الأثناء تساءلت عن هدف الدعوة إلى “مسيرة الوفاء” الوهمية. ففكرت أن جهازاً إعلاميا ما كتبها ووزعها، ربما لإيهام المتظاهرين والمحتجين وإخافتهم.
تظاهرة وزارة الداخلية
وغادرت دورتيّ حول المحمية، متجهاً إلى وزارة الداخلية لأشاهد التظاهرة التي تنطلق من أمامها. وفي الطريق من تلة الخياط في اتجاه الصنائع، قدت سيارتي بين أرتال السيارات، متسائلاً: ماذا سيفعل اللبنانيون بأسطول سياراتهم هذه، الفخمة في معظمها، بعدما تتدنى أحوالهم المادية والمالية، ويقعون في ضائقة معيشية كبرى بدأت تضرب البلاد؟ وكيف يستمرون في بذخهم وتشاوفهم بهذه السيارات التي يقودونها، وأقود سيارتي مثلهم، بعدما تعتقُ السيارات، هذه الغابة المعدنية في دبيبها العدواني الشرس شراسةً بشرية هاذية متلفةٍ للأعصاب؟
ومررت راجلاً من أمام مصرف لبنان المركزي. فرأيت في العتمة الخفيفة حوالى شبان وشابات عشر أمام رصيفه. سألت أحدهم عن التظاهرة الموعودة أمام وزارة الداخلية، فقال مَن سألته إنهم هنا من جماعة الاحتجاج على “حكم المصرف” ولا علاقة لهم بتظاهرة الداخلية. وقد أكون رثيت لحالهم من قلّتهم في وقفتهم الاحتجاجية المصرفية.
غادرتُ في اتجاه شارع الحمراء، وعدت بعد ربع ساعة، فمررت قربهم، فرأيتهم على حالهم، فسألت واحداً منهم عن هدف وقفته هنا، فقال إنه ينتظر تظاهرة الداخلية. ولما سرت وتركته تبعني، فالتقينا بشاب آخر عند المنعطف في اتجاه غرفة الصناعة والتجارة، فأعلمنا أن تظاهرة الداخلية تنطلق من أمام مدخل الوزارة قبالة حديقة الصنائع، وأن الواقفين أمام المصرف المركزي جماعة أخرى من المحتجين.
كانوا أمام مدخل الوزارة مئة أو أكثر قليلاً: شابات وشبان يهتفون ويقرعون الطبول ويضربون بملاعق على أوانٍ معدنية. يقولون في هتافهم لوزيرة الداخلية إن شرطة مجلس النواب وحراس قصر رئيسه يتبعون لأمرة وزارتها، وأن “تلمهم” ولا تدعهم “فلتانين”. وهتفوا ضد رئيس المجلس “الحرامي” مثل سواه من السياسيين. وتزايد عددهم، وارتفعت حماستهم وحماستهن في هتافات “ثورتهم”، “ثورة” 17 تشرين الأول. ورحت أراقبهم مستطلعاً. وبعد نصف ساعة من الوقوف والهتاف قرروا الانطلاق في مسيرتهم. فسرت بينهم طوراً، وتارة على الرصيف.
تظاهرات الأمس واليوم
ربما هكذا كنت أسير في تظاهرات نهايات الستينات والنصف الأول من السبعينات من القرن الماضي، تلك الطلابية الحزبية، لكن إلى جانب من أعرفهم ويعرفونني في المنظمة الحزبية التي كانت تريد قلب العالم كله رأساً على عقب، وغالباً نصرة الفدائيين الفلسطينيين، وإرساء النظام الشيوعي والإشتراكية العلمية على جثة النظام اللبناني وسائر الأنظمة العربية والدولية، وإسقاط الإمبريالية. وكانت بضع كتب وكراسات وكلمات دليلاً إلى هذا كله، مع اجتماعات حزبية نحسبها سرية في منزل رفيق لنا في الخندق الغميق، أو آخر في البسطا التحتا، أو ثالث في الشياح. اجتماعات عاطفية ملتهبة مثل أغاني عبد الحليم حافظ الذي قال عنه أحمد فؤاد نجم “لمليمو الدلوع الشخلوع”.
كانت “ثورتنا” آنذاك تطوف أفكارها العالم كله، قبل أن تصل إلينا، وتنزل علينا كلماتها في الاجتماعات كبيرة هائلة فنرزح تحتها ونحملها ثقيلة مثل هوامات خرساء وتُخرسنا مقولاتها وتفصمنا فصاماً كاملاً عن حياتنا التي كانت شبه حياة أصلاً، بائسة وخرساء إلا من الهتافات في التظاهرات.
لم أكن أفكر في هذا كله في سيري في تظاهرة مساء الأربعاء 11 كانون الأول الجاري، بين هؤلاء الشبان والصبايا “الثائرين” بلا تنظيم ولا قيادة، هاتفين هتافات “ثورتهم” السياسية، البلا سياسة، أو بسياسة استلّوها من يوميات حياتهم المباشرة التي كانت خالية من السياسة الكبرى والصغرى، وربما خَبِرت تفاهات أهل السياسة وصغارهم وابتذالاتهم ونذالاتهم من أخبارهم الفضائحية في كل يوم وساعة في بلدهم.
وسرت بينهم وعلى الأرصفة إلى جانبهم، مفتقداً حماستهم اللاهية، لكن المليئة بالإصرار والعزيمة والشراسة المنزوعة العنف. وحين وصلوا إلى الطريق المؤدي إلى محمية وليد جنبلاط الأمنية في كليمنصو، وقفوا وقرعوا طبولهم والأواني المعدنية التي يحملونها مرددين “يا وليد يا فرفور/حاج تلف وحاج تدور/ بكرا بتسقط مع تيمور/ويلا إرحل يا وليد”، مستلهمين هتاف الثورة السورية في حقبتها السلمية “ويلا ارحل يا بشار”. والحق أنني لمست أنهم غير خائفين من التعريض بالزعيم الدرزي. وهذه تحسب له لا عليه.
ولما وصلوا إلى نزلة الأرلكان وأرادوا الانعطاف نحو وادي أبو جميل، جابهتهم قوة منظمة من رجال الأمن المصطفين بانتظام لمنعهم من الانعطاف. فهتفوا في وجه صفوفهم: “وين كنتو مبارح وين، وين كنتو؟!”، معاتبينهم على عدم حمايتهم من العنف الدامي الذي أصابهم به حرس قصر رئيس المجلس النيابي في عين التينة. ولم يصروا على المرور في وادي أبو جميل. وهرولوا مسرعين في النزلة في اتجاه فندق الفينيسيا، ثم انعطفوا يميناً في شارع سفلي يوازيه، ثم يميناً نحو شارع وادي أبو جميل، وساروا فيه مسافة قصيرة. فإذا برجال أمن يصطفون على مدخل الشارع المؤدي إلى بيت الوسط، ومحمية سعد الحريري. فوقفوا وقتاً قصيراً مطبلين هاتفين: “سعد، سعد، سعد/ ما تحلم فيها بعد”، أي رئاسة مجلس الوزراء، مهنته الوحيدة التي ورثها عن والده، ولا يعلم كيف يتدبرها وسط أوباش السياسة اللبنانية، ولا كيف يركّب جُملاً على منوالهم في كلامهم الخشبي، فيروح يتكلم كيفما اتفق عن “مصلحة البلد، ومستقبل البلد” الذي قد لا يعلم أنه ليس بلداً، بل غابة، وربما يعلم، ولا يدري ماذا يمكنه أن يفعل.
وفي الشارع الفسيح ساروا وسط مطاعم فخمة قلّ زبائنها وروادها، وتوجهوا نحو شارع ويغان. مجموعة شبان وفتيات منهم راحوا يقرعون أو يلطمون بأكفهم معدن صندوق تجهيزات الهاتف على الرصيف، فتعالى صخب المعدن قوياً موقّعاً، أكثر من قرع طبولهم. وتزايدت حماستهم في أول شارع ويغان أمام أسواق بيروت، عندما شاهدوا جمعاً من المتظاهرين الذين ينتظرونهم أمام مبنى بلدية بيروت، قبالة الجامع العمري. وكانت الأسيجة المعدنية في الشارع المؤدي من شارع ويغان إلى ساحة النجمة ومجلس نواب الرئيس، في انتظارهم، وخلفها حراس مبنى مجلسه في كامل استعدادهم للحؤول دون وصولهم إلى الساحة ومبنى المجلس النيابي. وهم، المتظاهرون والمتظاهرات، كانوا على قناعة بأنهم لن يدخلوا، ولم يبذلوا جهداً ولا حماسة لاختراق الأسيجة المعدنية وصفّي حراس المجلس، الذين رأيت أحدهم يتحسس هراوته.
هتفوا هتافات “ثورتهم” إياها ضد المجلس النيابي ورئيسه، وسائر أهل السياسة في البلاد.. ثم راحوا يتفرقون.
أين كان جيلكم؟
كنت قد سمعت رجلاً مسناً مثلي يقول إن ابنته، راحت تقول له: أين كان جيلكم الذي ترك هؤلاء السياسيين يحكمونكم ويحكمون البلاد طوال هذه السنين؟ ثم ورّثتمونا إياهم بتفاهاتهم وصغائرهم وسوسهم الدولة بهذه الطريقة من الحقارات والنذالات والبذاءات؟! أين كنتم بعدما حاربتم حروبكم الأهلية، أو اختبأتم منها في بيوتكم كالفئران، أو هجرتم البلاد، ومنكم من عاد إلى حياته فيها، وانصرفتم إلى تحصيل معاشكم في هذه الغابة من الأوباش؟ وها أنتم تريدوننا أن نعيش مثلكم فيها أو نهاجر، أو تريدوننا أن نسكت سكوتكم. لا، لن نسكت.
وغادرت شارع ويغان، ومررت قرب ساحة سمير قصير، وفي ساحة الشهداء، وقرب مقبرة رفيق الحريري. وفكرت أن هؤلاء الشبان والشابات، أحرار من السياسة التي أعرفها وعرفها جيلي، وهم أحرار أيضاً من المجتمع اللبناني العميق، ويعيشون على هوامشه، بخفة لاهية مثل تظاهراتهم السياسية الآنية والمباشرة. وسوف تهاجر كثرة منهم ومنهن، وتطحن هذه الغابة المصرين على البقاء، فنرجوهم أن يهاجروا، ويتركوننا نتدبر أمرنا من دونهم.