أيمن شروف كاتب وصحافي لبناني
يخرج علينا شباب خندق الغميق وهم يمارسون أعمال العنف، بمشهد يمكن وصفه بـ”الجميل” فعلاً، إذا ما وُضع في إطاره الصحيح. مشهد شباب ساحة رياض الصلح “جميل” أيضاً. لكنه ناقص. عشرات الأمتار تفصل عشرات الشبان عن بعضهم البعض، ليتها لم تكن. كيف؟ بكل بساطة، لا يكتمل مشهد الساحة من دون شباب الخندق، ولا يتحول مشهد شباب الخندق إلى فعل مطلبي حقيقي، إلى ثائر حقيقي، من دون ساحة رياض الصلح وما تُمثله اليوم.
الخصم الخطأ
هناك علاقة متكاملة بين الاثنين. والاثنان لا يجدان إلى الآن مكاناً مشتركاً يُعبرون فيه عما يريدانه من بعضهما البعض. وهذا الأمر لن يتغيّر بين ليلة وضحاها، إلّا أنه سيأتي اليوم الذي سيلتقيان فيه، بل هو يوم آت لا محالة، سيكونان فيه، كتفاً إلى كتف في مواجهة الخصم الواحد، في مواجهة توحش السلطة بكل مكوناتها، وتوحش هذا النظام الذي جعله أهل السلطة على قياس مصالحهم، وحولوه ليكون عدواً لكل اللبنانيين من خارج المستفيدين منهم، ومنهم.
المشهد المتكرر لشباب خندق الغميق وهم يثورون على الخصم الخطأ، لا يُمكن فصله عما يعيشونه. هم فعلياً يمارسون العنف لأنهم خارجون من أحزمة البؤس. ولأن من وضعهم فيها، أقنعهم بأن من يعيش خارج الحزام، قطع الطريق على زعيمهم، ومنعه من العمل والكدح لإخراجهم من واقعهم المزري، ولأن الزعيم صوّر لهم أن هناك “بعبعاً” ينتظر أن ينقض عليهم في أي وقت إن غاب هو. وهذا ما هم يحاولون أن يقتنعوا به ويقاتلون من أجله، إذ ليس هناك الكثير من الحلول أمامهم. فخارج هذا البؤس هم غير موجودين. هذا بالضبط ما أوصلهم إليه زعيمهم، الذي يشعرون برغبة الموت من أجله. فهو يحافظ على الحد الأدنى من وجودهم، بما يتناسب مع مصالحه طبعاً، مستفيداً من غياب مقصود لدولة يتحكم فيها، أو هو جزء لا يتجزأ من منظومة تتحكم فيها.
الغضب
في المقلب الآخر، هناك نقص في رياض الصلح وساحة الشهداء، فلا يعرف الجميع من هو الخصم ولا يدركون المشكل الحقيقي. يعرف المتظاهرون الكثير من المشاكل التي يريدون أن يجدوا حلولاً لها. وهم، بما يعرفونه إلى اليوم، لم يستطيعوا أن يصيغوا أو يُقدموا مشهداً ثورياً حقيقياً، فيما خلا بعض المحطات. مشهد ثوري صار مفقوداً لأن العنصر الأساس المطلوب سُحب منهم. فالغضب موجود. لكنه صار مكبوتاً لأن هناك من هددهم بملوك الشغب والعنف الثوري، فسلخ هؤلاء عن الساحتين وترك شباب هاتين الساحتين من دون قائد فعلي في شارع، هو بأمس الحاجة إلى من يضع قلبه في صندوق فولاذي قبل خروج من المنزل، وإلى من يخرج وهو مدرك أنه لن يخسر أي شيء، لأنه لا يملك شيئاً.
يرمي شباب الخندق المولوتوف على شباب رياض الصلح. أما المشهد الفعلي فيُمكن وصفه بأن حماسة الشُبان صارت مضاعفة، حين رأوا أن البدلات المرقطة تفصل بين الشارعين. لا شعورياً صار شباب الخندق في حالة ثورية على ما يعتبرونه جزءاً من نظام يكنّون له الكره، وهم مُكرهون على كبت هذا الكره. يقوم هؤلاء الشبان بما يجب أن يقوموا به. ولكن في المكان الخطأ. هم يرمون ما يكتنزوه من حقد على حالتهم في وجه خصم أُقنعوا بأنه سيلغيهم، فيما الحقيقة في مكان آخر. ومن هو الذي يجرؤ على إخبارهم الحقيقة في بيئة صارت مكبلة؟ قلّة. ومن يجرؤ، يُرجم.
المساحة الكئيبة
يعيش شباب الخندق في واقع أسوأ مما يعيشه من ينتفض على السلطة. ماذا يريدون؟ بالضبط ما يريده كل مواطن في هذه المساحة الكئيبة، الحد الأدنى من الحياة. لكن هذا الحد الأدنى، هو بالضبط ما لا يريده لهم الزعيم، فيستقتل ليرشيهم بالفُتات. كل شاب في تلك البؤرة، يضمر في قلبه بركانا من الغضب بوجه حاكمه، من حاكم الشارع إلى المنطقة، إلى الطائفة. يضمر الشر في وجه من ينهبه. هو ساكت إلى الآن ولكن هذا الصمت لن يطول. سيأتي اليوم الذي يكسر فيه حاجز الخوف ممن يُممنه بالهواء الملوث الذي يتنفسه كل يوم. وهذا اليوم أصبح أقرب من أي وقت مضى، وكل فعل عنفي لهؤلاء الشُبان يُقربهم من الحقيقة أكثر. يُقربهم من الساحة الصح، أكثر فأكثر.
انطلقت قبل أسابيع مظاهرة من مصرف لبنان إلى ساحة رياض الصلح، حين مر المتظاهرون أمام خندق الغميق، بدأوا يهتفون: “يلي قاعد بالخندق، نحن بنفس الخندق”. هذا الهتاف الذي كان عابراً آنذاك لدى البعض، هو بالضبط ما تحتاجه الثورة اليوم، التي لن تكتمل ولن تتحول إلى ثورة حقيقية من دون هؤلاء. لن تكون ثورة 17 تشرين كاملة إلا حين يُصبح شُبان المولوتوف جزءاً منها، عساهم يُصبحون، قريباً.