إلى بيروت، حضر ثوار كل لبنان. في اليوم الستين لانطلاق ثورة 17 تشرين، وصل أبناء المناطق المختلفة بنبض عالٍ. طلّوا بأبهى حلّتهم. أتوا من طرابلس والضنية وعكار وكل الشمال، من سعدنايل والمرج وبعلبك وكل البقاع، من برجا الناعمة وكل الإقليم. سبقتهم أصوات حناجرهم إلى العاصمة، “يا بيروت.. نحنا معاكِ للموت”. جاؤوا للتضامن مع زملائهم من ثوار بيروت، التي حاولت السلطة تأديبهم والنيل منهم قبل ساعات. شاهدوا البلطجة والقمع والتشبيح ليل السبت- الأحد، وقرروا التصدّي له. وبعد حملات تضامن مناطقية مع بيروت، عزّ عليهم المشهد. لم يعد قطع طرقات مدنهم وقراهن يكفيهم. فتسلّط القوى الأمنية وشبّيحتها يستوجب الزخم أولاً. ومقاومته واجب، على اعتبار أنّ أي تراجع يعني انكساراً، أكان في بيروت أو أي مكان آخر.
فقراء العاصمة المقموعون
على مدخل شارع “ويغان”، بين مبنى جريدة النهار وأوتيل “لو غراي”، يمكن تلقّف كل وفد من لهجة أبنائه. “الله محيّي الثوار”. أتت المناطق إلى بيروت، وأحضرت معها خطابها المعيشي. هو الخطاب الذي غاب عن ساحات بيروت بفعل العديد من العوامل. فقراء المناطق حضروا ولم يجدوا فقراء العاصمة. هؤلاء مقموعون. هم المتوزّعون بين حزامي البؤس في ضاحيتي بيروت الجنوبية والشمالية. الجنوبيون منهم ممنوعون عن الثورة. فتاوى سياسية وأيديولوجية تعيق وصولهم. وكما هو مولى عليهم، الثورة “حراك”، شعاراته مصادرة وتعبّر عن مؤامرات غربية وإسرائيلية. أما فقراء الضاحية الشمالية، فنقطتي الاعتصام في الشيفروليه وجل الديب أقرب إليهم. على الأقل نفسياً ومعنوياً.
جاء ثوار المناطق حاملين نبضهم ولغتهم
“المناطق” تعدّل مزاج بيروت
بين ليلي السبت والأحد تغيّر المشهد في ساحة بيروت. عادت شاشات الكاميرات لتلتقط خطاباً معيشياً من الناس، من ناس المناطق. مطالب الأكل والشرب والأسعار والكهرباء والاستشفاء. اختفت عبارات “الاحتكار” و”الطغمة” و”الإصلاح” وغيرها. لم تعد النقاشات متمحورة حول قانون انتخابي أو معيار التمثيل في الحكومات. حضرت المناطق وأشعلت مجدداً شعار إسقاط النظام من باب لقمة العيش. الخطاب الذي تحايلت عليه أحزاب السلطة بورقة إصلاحية حيناً، وبإعاشات مذلّة حيناً آخر. من جَوّع الناس بالأمس واستغلّ جوعهم لتجنديهم في حروب عبثية تافهة، يعطيهم الفتات اليوم تحت ضغط حناجرهم. علّهم يصمتون ويبيعون أنفسهم مجدداً. لكن ذلك لم يعد ينفع. فهؤلاء ذاقوا طعم الحرية في 17 تشرين.
انتهاء مرحلة السلمية
ومن ذاق طعم الحرية مرّة، علق. أدمن عليها. ومواجهة هذه الانتفاضة بالقمع، بالغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والرصاص المطاطي، يغذّيها. وبحسب المشهد المستمر في الساحات، الثورة انهت مرحلة أولى من السلمية. في الجنوب والبقاع الشمالي، تتولّى مجموعات الشبيحة الحزبيين القمع. وفي بيروت الشبيحة نفسهم وإلى جانبهم عناصر مكافحة الشغب في قوى الأمن الداخلي. والجيش المتفرّج على زعران الأحزاب في بيروت، يتولّى بنفسه القمع في المناطق. تكرّر هذا السيناريو في مناطق عديدة، من تعلبايا إلى سعدنايل ومن طرابلس إلى الزوق وجل الديب، وصولاً إلى الجية وبرجا. السلطة لغتها القمع، والقمع يعني العنف، والعنف ينهي الحالة السلمية.
العنف الموجّه المقبل
في بيروت- البلد، ساحة جديدة اسمها شارع “ويغان”. وإذا كانت ساحتي الشهداء ورياض الصلح متروكتان للكرنفالات من جهة والنقاشات من جهة أخرى، فإنّ “ويغان” ساحة لمواجهة تشبيح السلطة. فيها مدخل البرلمان، حيث 128 حرامياً قابعون على كراسي التشريع وتمرير صفقات الفساد وإهدار المال العام، ومسؤولون عن الجوع والفقر. وفي هذا الشارع أيضاً تفاصيل قمع السلطة ورجال أمنها وزعرانها للناس. وفيه أيضاً ولادة مرحلة جديدة من ثورة 17 تشرين. مرحلة آتية عنوانها العنف. لا بد أن يكون عنفاً موجهاً ضد أزلام السلطة، في مقارهم ودورهم العاجية ومصارفهم. فزعماء السلطة وقحون. يحملون المظلات حين تشتمهم الجموع، ويصفقون لها عندما تغنّي عن فسادها. العنف بالعنف، والبادئ أظلم. وكما كتب الثوار على جدران بيروت، فإنّ “الغاز المسيل للدموع يؤدي إلى الإدمان على الثورة”.