نذير شؤم
استهل الشاب العشريني محمود، الشيعي الجنوبي، روايته شذرات من سيرته قائلاً: كانت ولادتي نذير شؤم. لكن نبرته وَشَتْ بسخرية مرتبكة حائرة، هادئة ومهذبة وحيّية، تنم عن شخصيةٍ تتسم بهذه الصفات. وهو علّل ذلك النذير بحادثة صغيرة عابرة ولا معنى لها، إلا في ثقافة سحريّة بدائية، ربما تحدّرت إليه من ثقافة بيئته الشيعيّة، التي أقام بينه وبينها مسافة ما تصدر عنها سخريته الحييّة منها. والثقافة تلك تحملُ حوادث العالم الواقعي على إشارات وتخاطرات ورؤىً يبثها عالم الغيب في حياة الناس اليومية. أما الحادثة التي رواها محمود، وحملها على نذير الشوم، فهي أن السيارة التي نقلت أمه – فيما كانت تحمله بين يديها رضيعاً ابن أيام، من المستشفى الخاصة (غندور) في النبطية، حيث أنجبته سنة 1996 – تعطلت فجأة في الطريق إلى بيتها الزوجي في بلدة القصيبة القريبة.
لكن حوادث حياة محمود ومسارها جاءت مخالفة تماماً لنذير الشؤم المفترض، ذاك الذي قد يكون من تبعات أو أصداء ثقافة أهلية تمزج الدين والتدين العاديين أو التقليديين، بمعتقدات شعبية سحرية قديمة. وقد ابتعد منها محمود ابتعاداً يشبه طبعه الهادئ، ويوازي أو يناظر هدوءَ ورزانة ابتعاده من البيئة الشيعية الصاخبة التي نشأ فيها وتربى وشبّ.
زمن شيعي آفل
والحق أن هدوء محمود، رزانته وتهذيبه الحيي، وحيرته في اختياره الكلمات والعبارات أثناء كلامه وصمته، تذكّر كلها بملامح زمن شيعي اجتماعي أفل وانطوى، بل دمرته الحروب الأهلية الملبننة (1975 – 1990)، ولم تبقِ منه إلا ما ندر من الأصداء التي أصابت محمود، كأنها إرث شاءت مصادفات أو أقدار حياته الأسرية والبيتية أن تتحدر اليه، ربما من أمه وأبيه، وضد زمن البيئة الشيعية التي عايشها طفلاً وفتى وشاباً.
ظلّت ملامح ذاك الزمن الشيعي الآفل حاضرة حتى بدايات الحروب، وتطبع معظم فتيانه وشبانه وأهله بـ “عصامية” ملتهبة تتميز بالانفتاح والتفتح والرغبة في التماثل والتثاقف والخروج على تقليد الأهل وسيرتهم ونمط عيشهم، وتطلب التعليم والعمل بجهد جديد محموم، على طريق الارتقاء الطبقي واللبننة الاجتماعية، أي الاندراج في سياق اجتماعي لبناني عمومي، في الربع الثالث من القرن العشرين (1950 – 1975)
والغريب النادر أن محموداً في طفولته وفتوته وشبابه، نشأ نشأة معاكسة للصخب والقسوة والعنف، التي لابست ولا تزال تلابس الخروج الشرس لمعظم أبناء الجماعة الشيعيّة (الجنوبية خصوصاً) على تلك اللبننة الاجتماعية الآفلة. والخروج المستمر هذا، تعكِيسٌ أو ضديّة للبننة السابقة، ودبّت (أي الضديّة) بقوة معدية وتفشت سريعاً في البيئة الشيعية، منذ الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982.
لكن اللبننة استمرت راعفةً في مقاومتها تلك العدوى مقاومةً منكفئة وضعيفة في بعض البيئات والدوائر الاجتماعية الشيعية المدينية واليسارية، في السنوات الأولى من الحرب الأهلية الملبننة.
وقد يكون ذلك الإرث، المتحول والصامت، في بعض بيئات الفئات المتوسطة الشيعية ودوائرها المنحسرة، هو المادة أو الخميرة التي مكّنت أفراداً وجيلاً شيعياً شاباً من المشاركة في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، ومنهم محمود، ولو على نحو فنيّ أو أدبي صامت وحيّيٍ، يناسب شخصيته وميوله.
زمن المحرومين ولعنة عون
ربما يناسب أن نفتح هلالين هنا، لتوسيع سيرة محمود ورفدها بإطارها الأعرض، السابق لحياته، لتقصي الانفكاك الشيعي عن اللبننة الاجتماعية، في سياقات الحروب الأهلية، وما قبلها.
وقد يكون السيد الإمام الإيراني الولادة والنشأة والإقامة، موسى الصدر – وربما من دون سابق تصور وتصميم منه – هو من اختط، بدايات طريق ذلك الانفكاك وبعث نواته الأولى، في عشايا حروب لبنان. وذلك عندما أسس “حركته للمحرومين” الشيعية، وأعلن شعارها الشهير: “السلاح زينة الرجال”، مستبقاً بسنوات كثيرة صكّ الإمام الخميني مفهوم أو شعار “أمة المستضعفين في الأرض”. ذاك الذي منه ولد “حزب الله” الخميني الإيراني في لبنان في كنف “حركة المحرومين” الصدرية، وانشق عنها انشقاقاً دموياً، كلّف المجتمع الشيعي اللبناني الكثير من الدماء والدمار.
وهي كلفة توازي ما كلفته في المجتمع المسيحي واللبناني، حركةُ العماد ميشال عون “الخلاصية والتحريرية” المزعومة ضد ميليشيا “القوات اللبنانية” وجيش الطاغية حافظ الأسد السوري، في حربي عون، “التحرير” و”الإلغاء” ما بين 1988 و1990.
ففي حربيه هاتين سابق عون نفسه والزمن – ضارباً في العماء الحماقة – في سيره اللاحق على خطى الحزب الخميني في “خدمة سيدين: سوريا الأسد وإيران الحرسية” (وضاح شرارة). دفعته إلى ذلك الرغبة المحمومة في المكوث في قصر بعبدا الرئاسي على الجثث والدماء والدموع. ولم تتحقق رغبته تلك إلا بالتحاقه التام بحزب الحروب الدائمة، وبلعنتين تجرع سمهما لبنان: لعنة حربيه بعد استيلائه الماكر على قصر بعبدا عام 1988، ولعنة إفلاس لبنان المالي وانهياره الاقتصادي في منتصف عهده الرئاسي غداة احتفاله مع صهره ورهطه في 13 تشرين الأول 2019، بالذكرى العشرين لفراره من القصر الجمهوري سنة 1990.
وبعد أيام أربعة على ذلك الاحتفال – اللعنة، قامت انتفاضة 17 تشرين الأول على نظام الإفلاس والانهيار الذي تمتد جذوره إلى بدايات سياسات رفيق الحريري المالية والاقتصادية في مطالع تسعينات القرن العشرين. وذلك في خدمة السياسة الأسدية والميليشيات الحربية الشيعية والدرزية، المنتصرة على المسيحيين وميليشيا “القوات اللبنانية”، بفضل جيش الأسد ومخابراته وحروب ميشال عون وهوسه السلطوي والرئاسي.
أخلاط “أمل” في بداياتها
نعود إلى محمود وأهله في القصيبة الجنوبية – قضاء النبطية، وزمن “المحرومين” والشعار الصدري: “السلاح زينة الرجال”. والحق أن تسجيل شذرات من سيرة محمود، ما كانت لتكتب على هذا النحو لولا حملها على مناسبة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، واستلهامها ومحاولة التعرف على جذور تصلب البيئة الشيعية الموالية لـ”حركة امل” و”حزب الله” في عدائها لهذه الانتفاضة، وخصوصاً للشيعة الذين شاركوا فيها بمدينتي صور والنبطية وفي بلدة كفرّمان، واتخاذ بلدة القصيبة في قضاء النبطية مثالاً لذلك التصلب.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الشعار الصدري القديم لدى إطلاقه في عشايا الحروب الأهلية الملبننة، ربما كان مناسباً للبيئة الشيعية البعلبكية والهرملية وعشائرها وطفّارها وثاراتها المسلحة، أكثر من تناسبه مع البيئة الشيعية الجنوبية. وهذا على الرغم من أن هدفه (أي شعار “السلاح زينة الرجال”) كان التصدي للعدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان.
ولا بد من إشارة أخرى تاريخية هنا: نشأت النواة الأولى للحركة الصدرية في النبعة، ضاحية بيروت الشرقية الشيعية، على يد “طافر” أو “شيخ شباب” (شبيح باللغة الدارجة اليوم) يدعى مصطفى أبو علي صفوان البعلبكي وزمرته التي سُميت “فتيان علي”، وكانت على صلة بمخابرات المكتب الثاني في الجيش اللبناني، قبل تمددها إلى حي المصبغة في محلة الغبيري – الشياح في ضاحية بيروت الجنوبية في بداية الحرب (1975). ولما توسعت الحركة الصدرية، “حركة المرحومين” وتمددت في المناطق الشيعية بقاعاً وجنوباً، أنشأ جهازها العسكري ودربه قائد الحرس الثوري الإيراني لاحقاً، مصطفى شمران الذي كان مساعداً للصدر، ومن الشخصيات “الدولية” الكثيرة التي آوتها منظمة “فتح” الفلسطينية. ولاحقاً عاد شمران إلى إيران بعد انتصار ثورتها الخمينية (1979)، وقتل سنة 1981 في الحرب العراقية – الإيرانية. أما الجهاز العسكري لـ”حركة المحرومين”، فسُمّي “أفواج المقاومة اللبنانية”، واختصاره (أمل). وقد يعود لشمران بدايات تبيئة “أمل” العسكرية في الجنوب، وتسليحها وإنشائه معسكرات تدريبها. وهذا بالتعاون مع “فتح” والمخابرات السورية، برجلها محمد ناصيف.
(يتبع)