اليوم يوم آخر
بعد تسمية الرئيس المحتمل لتشكيل حكومة جديدة، توضع نقطة على صفحة الأزمة السياسية المفتوحة، وتفتح صفحة بيضاء تكمل ما سبق من صفحات الأيام. الصفحة ليست جديدة، وهي غير قديمة أيضاً. هذا يعني أنها على صلة وثيقة بباقي صفحات كتاب الأيام السياسية، وأنها ملزمة بالبحث عن “نص” صراعي جديد تعتمده في الآتي من أيامها الصراعية المتبدلة.
النص الصراعي
النص الصراعي يبحث في واقع الحركة الشعبية بعد الوقت الذي أمضته في الشارع، مثلما يبحث في واقع النسق الرسمي؟ بعد الوقت الذي أمضاه في كواليس المماطلة والتجاهل حيال ضجيج الشارع، وفي ميدان المناورة وتقاذف كرة اللامسؤولية، كسياسة رسمية تسعى إلى إعادة رسم معادلة النهب الطائفي بين أركان التشيكلة السلطوية.
المدخل إلى البحث عنوانه المراجعة السريعة لما اعتمد من قبل “الحركة الشعبية” حتى يوم 19/12/2019، ومن المراجعة إلى الخلاصات العملية، في التشخيص والشعارات والأساليب والأهداف.. وكل ذلك من ضمن حسابات شاملة تضع في اعتبارها احتمالات سلوكات السلطة. لن يكون بعيداً من الواقع لجوء السلطة إلى حملة كسرٍ شعبية، تبدأ من الترويج المباشر لتنفيذ المطالب التي رفعتها الجموع المعترضة، وتمر بالالتفاف على هذه المطالب بأساليب ملتوية، وبقوانين تقشفية تصيب السواد الأعظم من الشعب اللبناني، متوسلة، في كل ذلك القمع بصنفيه: القمع الاجتماعي، من خلال تطييف الحركة الشعبية ومذهبتها، أي دفعها إلى خانة “اللاوطنية”، بعد التوق الذي أبدته هذه الحركة لكسر قمقم التنميط الذي يقيم فيه النظام الطائفي اللبناني، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، القمع الأمني الذي يعيد فتح أيام الشارع المنتفض على حكامه بحيث تطال الإجراءات كلَّ من كان ناشطاً في السياسة ومن كان ناشطاً في الثفافة، ومن كان مناضلاً في الساحات.
في موازاة القراءة الاستباقية لما قد تقدم عليه سلطة الحاكمين والمتحكمين من إجراءات مضادة، لا بديل من التدقيق في لوحة الحركة الشعبية والانتباه إلى واقع كل “ألوانها”. لقد آن الأوان للقول أن ساحات الاعتراض الشعبي غير متطابقةٍ لجهة علاماتها ودوافعها، ومجموع الساعات الذي تشابه شعارياً، وتقارب نطقاً وتصريحات، هذا المجموع غير متشابه لجهة المسافة المشتركة الواقعة بين لحظة انفجار الشارع وبين المآل الذي يجب أن يصير إليه هذا الانفجار. لو شئنا تسميةً للدلالة لقلنا: إن مكونات ساحات طرابلس والشمال ليست كموكنات ساحات الجنوب، وساحة الشهداء تختلف عن ساحة رياض الصلح، وساحة ذوق مصبح ليست ساحات البقاع، وكلُّ تلك الساحات ليست نقطة الجية – برجا، ولا هي ساحات مدينة عاليه، وكل ذلك لجهة حسابات المصالح الخاصة والعامة.
لقد ساهمت اللاانتظامية في بوتقةٍ إنتظامية، في حجب القراءة التمييزية، وطلب مظهر الوحدة أقصى الوقوف أمام قراءة تعدد مكونات هذه الوحدة، هذه التي حضرت شعرياً ومشهدياً واستهدافاً سياسياً عمومياً. كانت تعبيراتٍ اعتراضيةٍ بالجملة، ضد نظامٍ طائفيٍ بالجملة. التعميم ضد النظام يساهم في التعمية على عواقب اللاانتظام، خاصةً عندما تدق ساعة إجراء المراجعة الضرورية.
انفصالٌ واتصال
تناول الوقت النضالي الذي انقضى لا يكون اجتزائياً، مثلما لا يكون قفزاتٍ متتابعة من دون مقدماتٍ أو من دون تتماتٍ تأملية يفترضها استئناف متابعة الرحلة الصراعية. لذلك من الأجدى اعتبار أن فصل اللحظة الاعتراضية الحالية عن اللحظة السابقة متداخلٌ في ذات الوقت مع اللحظة الاعتراضية التالية، مباشرة ومن دون انقطاع سياسي.
وما يجب أن يكون مقياساً للحركة الشعبية الآن، له عنوان رئيسي يختصره سؤال من شقين، الأول: كيف يمكن انتزاع مطلب أو أكثر من التشكيلة المهيمنة حاليا؟ والثاني: كيف يمكن توظيف النجاح الراهن في إعادة تشكيل وتنظيم وحشد الحركة الشعبية في كل المعارك الاجتماعية والسياسية المقبلة؟ الإلحاح على هذه النقطة مصدره الانتباه الشديد إلى تجنيب “الشارع” الخسارة المجانية، وتخليصه من الطموح إلى فوز شامل غير ممكن، ففي الأمرين إصابة بالغة لاستمرارية النفس الصراعي العالي، ولاحتمال انفراط عقد حشد جمهوره. الانتقال إلى التفاصيل لدى مباشرة المراجعة، متاح وله عناوينه، والضرورة تقضي أن يكون هذا الانتقال سريعاً.
سلوك راهن
في الأثناء، سيكون هاما جداً استمرار الضغط الشعبي في مرحلة اختيار شكل الحكومة وأسماء أعضائها، وفي مرحلة إعداد البيان الوزاري، وفي مرحلة نقاش البيان.. باختصار، يجب أن تنتهي المرحلة الوزارية هذه وسيف الضغط الشعبي مصلت على كامل حركتها. وعلى سبيل الحسابات، قد لا يصل الرئيس المكلف إلى التأليف، وقد تتعثر كل المناورة التي جاءت به، ذلك إن حصل، لن يؤثر على الأداء الشعبي الذي أظهر حكمة وبراعة في مواكبة سير “الحكومة” وكأنها ستتشكل غداً، فلما ماتت أبداً، إذا ماتت، كان التحرك الشعبي محتفظا باستعداده وثباته في الميادين النضالية.
هو رأي أول، والتعديل والتطوير والتبديل.. أمور تحسمها التطورات الوقائعية.