رجل الكنارات
أقفز من سريري إلى النافذة. على عجل أرفع الستائر الثقيلة، فيطالعني مشهد سينمائي قديم: رجل في الثمانينات يجلس في حديقته. أمامه طاولة بيضاء عليها صحن فاكهةٍ، ركوة قهوة وفنجان، راديو أسود قديم، كنارات ثلاثة تؤنس جلسته، ترافق زقزقاتها موسيقى الرحابنة.
أفكر: كم من حقب تاريخية يختزن هذا الرجل في ذاكرته؟ كان يملك أحد أهم المطاعم في لبنان: هارون الرشيد.
في مدينة يافا، ومن أمٍ فلسطينية وأب لبناني، ولد أمين الحلاق الملقب بهارون الرشيد (نسبةً إلى شهرة مطعمه على شاطئ الأوزاعي، جنوب مدينة بيروت). بدأ حياته المهنية في تعلّم الخياطة. كان في الثامنة. تمرس في المهنة، وراح يخيط العباءات العربية (الجلابيات). استقطب خليجيين من السعودية والكويت. بعدها عمل في بلدية بيروت. ثم دخل عالم العقارات، فأصبح واحداً من أهم العاملين في القطاع.
وتمكن الحلاق من جمع ثروةٍ ضخمة، عقارية ومالية. فافتتح مطعماً في منطقة الأوزاعي، وسماه مطعم هارون الرشيد، فصار من أهم مطاعم شاطئ الأوزاعي في الستينات من القرن العشرين.
منتجعات.. للمهجرين
ذاع صيت المطعم في الستينات، وصُنّف من مطاعم الدرجة الأولى. استقبل زبائنه من المناطق كافة: “كنت أبيع 600 كيلو سمك يومياً. أذهب إلى المزاد بصيدا. بس أرمش بعيني، يعرف الجميع أن المزاد لي”. كان المطعم مقصداً لأهل الفن والسياسة من الدرجة الأولى: “كنت استقبل أهم المشاهير، من وديع الصافي إلى نجوى فؤاد، وفريال كريم. ومن رجال السياسة وليد جنبلاط، ياسر عرفات، وغيرهما. بس رئيس الجمهورية ما إجا زارني”.
لما افتتح المطعم كانت الأوزاعي شاطئاً رملياً، خال إلا من قلة منازل وأبنية. مطعم هارون الرشيد، ومطعم ميامي لصاحبه أبو خالد ناصر، ومطعم فلوريدا، شهدت على مراحل نمو تلك المنطقة.
اليوم، يجلس أمين الحلاق (أبو محمد) أمام متجره مستعيداً ذكرياته القديمة. يخبرني عن المنطقة في الخمسينات، عندما كان السكن فيها يقتصر على محيط مقام الإمام الأوزاعي. وكانت عائلات الساكنين من آل دندشلي، رمضان، دندن، سنو، والحص. أما الشاطئ فكان خالياً إلا من بعض الشاليهات في محيط المقام، وتعود ملكيتها لآل الحص. إلى شمال المقام كانت المسابح والمطاعم التي نالت شهرة واسعة في الستينات: السان ميشال، السان سيمون، ومنتجع الأكابولكو لآل العبد.
أثناء الحرب الأهلية (1975 – 1990) أقفلت هذه المطاعم – المنتجعات أبوابها، بعدما بدأ ينكفئ الاجتماع اللبناني والبيروتي ويتمزق، وتفقد دورة حياته الترفيهية نمطها وإيقاعها. ومن علامات ذلك، لجوء مهجّري منطقة الكرنتينا في شرق بيروت – وجلّهم من عرب المسلخ (السُّنَّة) – إلى الأوزاعي ومسابحها وشاليهاتها، قبل انتقالهم إلى حارة الناعمة وخلدة، ليحل مكانهم مهجرو النبعة وسن الفيل، وسواهم من الجنوبيين والبعلبكيين الشيعة.
كانت الطريق الرئيسية التي تتجه إلى جنوب لبنان ولا يزال، تقطع الأوزاعي كلها إلى شطرين: تحت الطريق وصولاً إلى البحر. وفوق الطريق حتى تخوم مطار بيروت الدولي (رفيق الحريري لاحقاً) وضاحية بيروت الجنوبية. وتتبع الأوزاعي عقارياً بلدية برج البراجنة.
التهجير ومافيا المصادرات
تاريخياً، لم تكن أراضي الأوزاعي مفرزة عقارياً، بل تتوزع أسهماً، وتملك أسهمها عائلات كثيرة. وهي لا تزال كذلك في الدوائر العقارية الرسمية، لتتوزع ملكياتها حصصاً لا يمكن تحديدها ولا الاستفادة منها، إلا على نحو غير رسمي في اجتماع ومجتمع التهجير والعمران العشوائيين في أزمنة الحرب وما بعدها.
في ظل الفوضى والمصادرات والاحتلالات التي سادت في البلاد على مراحل، وضعت بعض العائلات يدها على الأوزاعي، وأبرزها آل ناصر. وهم من شيعة برج البراجنة، وكانوا يملكون فيها بعض الأسهم، لكنهمم تصرفوا وكأنهم الملاك الوحيدون، وكانوا من أوائل العائلات التي سيطرت على الأوزاعي، إضافة إلى بعض العشائر، ومنها عشيرة آل المقداد. عملت العائلات المسيطرة على بيع الرمول والأراضي إلى المهجرين والوافدين الجدد، بموجب عقود خاصة غير رسمية، ومن دون إمكان فرز العقارات المباعة. وفي كثير من الأحيان كانت تباع من دون علم الملاك الأصلين، بحكم المصادرة ووضع اليد.
ولطالما كان التنافس على أشده بين “قبضايات” الأوزاعي منذ أواخر الستينات من القرن العشرين. ومنهم أبو طعان المقداد، وأبو خالد ناصر صاحب مطعم ميامي. ويتحدث أهل الأوزاعي عن مناوشاتٍ عدة حدثت بين الطرفين في زمن الحرب الأهلية. وكان هدفها السيطرة على موارد المنطقة العقارية والاقتصادية. ففيما عمل معظم آل المقداد في بيع الرمول، سيطر آل ناصر على تهريب البضائع من مرفأ الأوزاعي غير الشرعي (لصالح منظمات المقاومة الفلسطينية قبل 1982، ولصالح “حركة أمل” الشيعية بعد ذلك). وفي الأثناء استخدمت الشاليهات لتخزين للتبغ المهرب إلى السوق اللبنانية.
الأوزاعي سوقاً تجارية
ونمت منطقة الأوزاعي نمواً عشوائياً. لكن مطعم هارون الرشيد الراقي ظل صامداً في السنوات الأولى من الحرب. وهذا رغم استهدافه بقذيفة من حزب الله – بحسب الحلاق – بسبب تقديمه الكحول لزبائنه. ومن موقعه على شاطئ البحر، شهد المطعم على المجزرة التي راح ضحيتها بالقصف الإسرائيلي 30 شخصاً في الأوزاعي عام 1978. وذلك بعيد الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي وصل إلى مجرى نهر الليطاني في الجنوب. وكان معظم الضحايا من آل حرفوش جراء قصف الإسرائيليين مرفأ الأوزاعي.
في الثمانينات باتت منطقة الأوزاعي المنفذ والطريق الوحيدين للعبور والوصول إلى الجنوب والبقاع، ووصولاً إلى سوريا. وذلك بعد إقفال طريق الحازمية – الكحالة، تحول طريق صيدا القديمة، من الشويفات إلى وسط بيروت مروراً بطريق الشام، إلى خط تماس حربي. وهذا ما ساهم في تنامي منطقة الأوزاعي وازدهارها، وتحولها سوقاً تجارية للسلع والخدمات كافة، وخصوصاً الرخيصة والشعبية منها.
مشروع “أليسار” الوهمي
في العام 1995، أنشئت “المؤسسة العامة لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت”، أو ما يعرف باسم مشروع “اليسار”. وذلك بهدف تنمية المنطقة الواقعة بين المطار والعاصمة. وقف أهالي الأوزاعي ضد المشروع، مستقوين بمنظمتيهم الأهليتين الشيعيتين المسلحتين (“أمل” و”حزب الله”)، حفاظاً على تماسك بيئة “المقاومة” ولحمتها العصبية الطائفية، وتسلطها على مجتمع التهجير وفوضى العمران العشوائي، والاستفادة منه. فديمغرافياً 70 في المئة من سكان الأوزاعي هم من شيعة البقاع، و20 في المئة من شيعة الجنوب، و10 في المئة من انتماءاتٍ مختلفة. ولا يزال مشروع “اليسار” الوهمي حتى اليوم يكلف الخزينة اللبنانية المليارات.
ويروي أمين الحلاق كيف عرض أحد الأوصياء على مشروع “اليسار” على أبو خالد ناصر مبلغ 4 مليون دولار كتعويضٍ عن مطعم ميامي، فرفض التخلي عن المطعم وبقي متمسكاً بالأوزاعي.
و”مات أبو خالد وماتت الأوزاعي معه” – قال الراوي – وترحم سكانها عليه بوصفه آخر قبضاياتها حتى وفاته: كان يمنع الاعتداءات. ويحمل أصحاب المحال على تنظيف الفسحات أمام محلاتهم. ويمنع البائعين المتجولين من المرور لجهة البحر. وبعد وفاته تسلط “الزعران” الذين راحوا يفرضون خوات على المحال التجارية.
ألوان زاهية واختناق
على الرغم من مشروع “الأوزفيل” – نفذته منظمة مجتمع مدني غير حكومية، لتحسين بيئة الأوزاعي، فساعدت سكانها في طلاء جدران واجهات منازلهم المواجهة للبحر بالألوان الزاهية- لم تحجب هذه الألوان مشاهد الحرمان التي ترزح الأوزاعي تحته وتختنق.
من شرفة مطعم ميامي الذي أعيد افتتاحه قبل أشهر، بعد إقفاله سنوات سبع، تشم رائحة البحر الذي سرقت رموله وما زالت تُسرق. أما مطعم هارون الرشيد فاختفى أثره، إلاّ في ذاكرة الجيل القديم: جاءت جماعة من حركة أمل، وأرغمت أمين الحلاق على بيع المطعم، لأنه سني من برجا. دفعوا له مبلغاً زهيداً لا يساوي شيئاً من ثمن الأرض والبناء واسم المطعم وشهرته القديمة، قال الراوي المسن.
تخلى الحلاق عن مطعم هارون الرشيد، الذي أقفل أبوابه في العام 1979. وتحول بناؤه مركزاً لـ “حركة أمل”، ثم مدرسة لا يعلم تلاميذتها ولا هيئتها التعليمية أي شئ عن تاريخ المبنى.
وبعد إقفاله هارون الرشيد في الأوزاعي، افتتح الحلاق مطعماً بالاسم نفسه في منطقة خلدة، قبالة قصر الأمير شكيب أرسلان. وعلى منوال الأوزاعي ومثالها، شهد أمين الحلاق على تطور منطقة خلدة ونموها، قبل أن تحاصر مطعمه الجديد سياسة البناء العشوائي وتخنقه.