السلاح “زينة الحرمان” الشيعي بديلاً للعِصاميّة و”الأودمة”

23 ديسمبر 2019
هبّ على الشيعة اللبنانيين نزاعُ سري عنيف بين الأجهزة الإيرانية والأجهزة السورية (Getty)
هبّ على الشيعة اللبنانيين نزاعُ سري عنيف بين الأجهزة الإيرانية والأجهزة السورية (Getty)
beirut News

محمد أبي سمرا كاتب وصحافي لبناني

حلقة ثانية (الأولى نُشرت في 21 كانون الأول الجاري) من سيرة شاب شيعي جنوبي، خلفيتُها وإطارُها العريض نشأةُ “حركة أمل” و”حزب الله” وتحولاتهما العاصفة. وقد كُتبت السيرة في ضوء انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.

مأوى الخمينية الأول
بعدما أنشأ الإمام موسى الصدر “حركة المحرومين” سنة 1966 في لبنان، وعهد إلى مساعده الإيراني مصطفى شمران تأسيس منظمتها العسكرية “أفواج المقاومة اللبنانية – أمل”، سرعان ما صارت الحركة الصدرية، قبل سنوات من الحرب الأهلية الملبننة (1975)، ملجأ رجال دين وثوريين إيرانيين وعراقيين فارين من بطش نظام الشاه في إيران، ونظام البعث الصدامي في العراق.

وكانت حركة “فتح” الفلسطينية المعسكِرة في لبنان، مأوىً أمنياً وعسكرياً لقسم كبير من أولئك “الثوريين” اليساريين الذين انقلبوا، بتوسيط العقيدة الماوية، إلى تديّن خميني في عشايا الثورة الإسلامية الشيعية في إيران. وهذه كانت حال مصطفى شمران إياه.

ونحت الحركة الشيعية الصدرية ومنظمتها العسكرية “أمل” إلى “مقاومة الدولة اللبنانية، لاستخلاص الشيعة اللبنانيين من أبنيتها، بغية جلائهم جسماً واحداً موحداً ومستقلاً عنها”، على ما كتب وضاح شرارة في كتابه “دولة حزب الله”، الذي تقصى سير عشرات من مؤسسي “الحركة الإسلامية” الشيعية في لبنان بأطيافها الكثيرة في سبعينات القرن العشرين. وكان أولئك الدعاة المؤسسون اللبنانيون والعراقيون والإيرانيون كثيري التنقل السري، الدعوي والتنظيمي، بين لبنان والعراق وإيران.

وفي صيف 1978، إبان الثورة الإسلامية الخمينية الإيرانية، عاد إلى إيران مئات من دعاة الكفاح المسلح الإيرانيين والعراقيين الذين أُعدّوا في لبنان، للمشاركة هناك في تلك الثورة التي قوضت نظام الشاه سنة 1979. وعاد الخميني من باريس إلى طهران، وأسس نظامه الإسلامي الثوري الإيراني، نظام “ولاية الفقيه” ودولته، وشرع في الإعداد لتصدير الثورة إلى الخارج. وكان بين أولئك العائدين من لبنان إلى إيران، إلى مصطفى شمران الذي أسّس “الحرس الثوري” الإيراني، ممثل الخميني لدى منظمة التحرير الفلسطينية، آية الله علي جنتي الذي عمل في منظمة “فتح”، وابن آية الله منتظري (محمد) المدعو “رينغو” لحمله على الدوام مسدساً على وسطه. وعشرات من حركة “أمل”، وبعض من حرس الخميني الشخصي، كانوا قد تدربوا في معسكرات “فتح” على الأراضي اللبنانية.

أمة المستضعفين
وإذا كانت هذه حال “حركة أمل” في سبعينات القرن العشرين، فإن تأسيس “حزب الله” ما بعد غزو الجيش الإسرائيلي لبنان صيف 1982، عمّق شقاق شطر كبير من “أمل” عن لبنان المجتمع والدولة، وجلاه جلاءً تاماً في خلايا سرية بأسماء كثيرة، منها “الجهاد الإسلامي” و “أمل الإسلامية”. وكان بعض من تلك الخلايا يتبع “حزب الدعوة” الذي كان السيد موسى الصدر ومحمد باقر الصدر من مؤسسيه في العراق. وسرعان ما انشقت “أمل الإسلامية” عن “أمل” الأم، والتحمت بتلك الخلايا السرية المرتبطة مباشرة بالأجهزة الإيرانية التي تديرها. ونشأ عن ذلك الالتحام “حزب الله” الذي أذاع بيانه التأسيسي إلى “أمة المستضعفين في العالم” من مسجد الغبيري في ضاحية بيروت الجنوبية سنة 1985. وكان خطف الإمام الصدر سنة 1978، قد شرّع أبواب “أمل” أمام الرياح الإقليمية التي هبت على لبنان أثناء حروبه الأهلية، وخصوصاً من سوريا الأسد وإيران الخمينية.

ومن تلك الأبواب المشرعة، كان قد هبّ على الشيعة اللبنانيين، أي على تركة “حركة المحرومين” الصدرية والشيعية و”أملها” في لبنان، النزاعُ السري العنيف بين الأجهزة الإيرانية الخمينية والأجهزة السورية الأسدية. فانحازت “أمل” غير الخمينية بقيادة نبيه بري إلى السياسات السورية الأسدية وحروبها الأهلية الملبننة. وجاء تأسيس “حزب الله” حصة الأجهزة الخمينية الإيرانية من التركة الصدرية وتركة “فتح” من اليساريين الماويين اللبنانيين المتأسلمين أو المتشيعيين خمينياً، إضافة إلى خلايا “حزب الدعوة الإسلامي” الشيعي.

وسرعان ما انفجرت تلك القسمة الشيعية حرباً أهلية شيعية -فلسطينية: بين “أمل” بري وبقايا المنظمات الفلسطينية في لبنان ما بعد 1982. والحرب هذه خاضتها “أمل” بتوجيه كامل من الأجهزة الأسدية في صراعها مع بقايا “فتح” ياسر عرفات الفلسطينية، وعُرفت بـ “حرب المخيمات” في النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين. هذا فيما كانت “حركة الوحيد الإسلامي” الطرابلسية السنية الأصولية بزعامة سعيد شعبان، تخوض في طرابلس حرب ياسر عرفات ضد جيش حافظ الأسد وأعوانه من المنظمات العسكرية اللبنانية القومية العروبية واليسارية. وأدت الحرب الطرابلسية تلك إلى رحيل عرفات عن عاصمة الشمال اللبناني، لتستولي عليها استخبارات الأسد وأعوانها من شراذم الأحزاب اللبنانية، بعد مجزرة دموية في باب التبانة.

حرب أهلية شيعيّة
في أثناء تلك الحروب، كان “حزب الله” الخميني في لبنان النصف الثاني من الثمانينات في طور انجاز بنيته التنظيميّة وتصليبها في ضاحية بيروت الجنوبية. وسرعان ما احتكر مقاومة إسرائيل في الجنوب، وخلّص تلك المقاومة من المنظمات اليسارية اللبنانية التي سبقته في خوضها، فراح يغتال قادتها ومنظميها، فتمكن مع “أمل” من إقصاء تلك المنظمات عن الجنوب اللبناني إقصاءً دموياً كاملاً.

وانفجر بعد ذلك الصراعُ بين الأجهزة الخمينية وشريكتها الأسدية، على استراتيجيات المقاومة الشيعية لإسرائيل في لبنان، وعلى وتوظيف ثمارها. ونجمت عن ذلك الصراع حرب أهلية شيعية – شيعية بين “أمل” السورية و”حزب الله” الإيراني الخميني أو الحرسي الثوري. فكلفت تلك الحرب مئات القتلى من الشيعة اللبنانيين.

كان عقد الثمانينات من القرن العشرين، إذا، عقد نزاعات دموية إقليمية – دولية في لبنان وعليه، وعلى دور الطائفة الشيعية وجلائها قطباً أساسياً في “خدمة سيدين” في الحروب الأهلية الملبننة. وارتسمت ملامح قسمة ذلك الدور على النحو المعروف: “أمل” حصة سوريا الأسد، و”حزب الله” حصة إيران الحرس الثوري. وظلت هذه القسمة قائمة وسارية بالتراضي حتى قيام الثورة السورية على نظام الأسد في العام 2011.

المعول زينةً لا السلاح
إبان ذلك العقد اللبناني والشيعي الدامي، كان والد الشاب الشيعي الجنوبي محمود، البالغ اليوم (2019) الثالثة والعشرين من عمره، شاباً في عمر ابنه، في بلدته الجنوبية القصيبة – قضاء النبطية.

لكن لا “حركة أمل” ولا “حزب الله” جذباه إلى صفوفهما التنظيمية. بل إن شيعيّته ظلت عادية وتقليدية، فلم ينضوِ لا في سلك التشيع الجهازي “اللبناني الأملي”، ولا في سلك التشيع “الجهادي” الجديد (حزب الله) الوليد في غمرة الحروب الأهلية الملبننة وتهجيرها ودمارها في الديار الشيعية. ظل الرجل، ابن القصيبة، شيعياً على إيمانه البلدي التقليدي والمتوارث في ما كان يسمى جبل عامل، والجنوب لاحقاً.

فهو كان “شغيل فاعل” مياوماً في أرض سواه من ملاك الأرض الزراعية، وأمياً شديد “الحرمان” الذي نشأت “حركة المحرومين” الصدرية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، للخلاص منه، وسرعان ما تصدرها أمثال نبيه بري من المتعلمين والأطباء والمحامين والموظفين الإداريين والمدرِّسين الشيعة، إضافة إلى المهاجرين منهم. وهؤلاء جميعاً كانوا من أسر وعائلات الصفوف الخلفية من هرم المراتب الشيعية التي كانت تتصدّرها العائلات الشيعية الإقطاعية النافذة والمتنافسة في الجنوب، أمثال الأسعد وعسيران والزين والخليل.

لا “الحرمان الحركي” ولا السلاح، أي زينته وأداته، حسب شعار موسى الصدر، جذبا والد محمود في القصيبة. فظل المعول “زينته” الشقية، قبل أن يعمل معمرجياً (معلم عمار) يعيش من “عرق جبينه”. فربى أبناءه الثلاثة وابنته، الذين أنجبهم بعد زواجه امرأة من كفر تبنيت في مطالع تسعينات القرن العشرين، ونشّأهم على “عصامية” وأخلاق وعادات زمن شيعي “ملبنن اجتماعيا”، وكان قد تلاشى وأفلَ وانقطع تقريباً، لصالح زمن شيعي جديد، صاخب وحربي ومسلح، ومرتدٍّ على تلك اللبننة الآفلة.

“الأودمة” وعمران السلاح
وقد يكون طلاق أبو محمود المعولَ والعمل في الأراضي الزراعية، للعمل في تشييد الأبنية، من علامات الطور الثاني من العمران الشيعي الناهض في القرى الجنوبية في العقد الأول من الألفية الثالثة. وذلك من عوائد السلاح و”التحرير”، وتوغل “حركة أمل” في أجهزة الدولة اللبنانية وغزوها، منذ تعيين الأستاذ نبيه بري وزيراً في الحكومة، مكافأة أسدية له ولحركته على خوض غمار “انتفاضة 6 شباط” 1984، وإسقاطه “اتفاق 17 أيار” الذي كانت حكومة شفيق الوزان في عهد أمين الجميل الرئاسي عازمة على عقده مع الحكومة الإسرائيلية، لجلاء الجيش الإسرائيلي عن لبنان، بعد غزوة 1982

وروى محمود المولود سنة 1996، والناشئ في القصيبة، أن والده وأمه ربة المنزل التقيّة الورعة مثل زوجها المعمرجي، كانا “بيتوتيين”، أي منطويين على حياتهما البيتية واعتنائهما بأولادهما وتعليمهم، فربياهم على “الأودمة”، على هوامش الاجتماع الشيعي الصاخب في التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة.

و”الأودمة” تعني “عدم الأذية”، وعدم الانتماء إلى منظمات سياسية وحزبية، ولا التأدُّب بأخلاقها وسلوكها، والتزام الفرائض الدينية من صوم وصلاة، بلا غلو ولا مجاراة لشعائر التدين الجديد الذي صاغته المنظمات الحزبية. وذلك على خلاف معظم أبناء بلدة القصيبة في انخراطهم في “حركة أمل”، على الرغم من أن والد محمود وأمه وسائر أقاربهما، كانوا ولا يزالون يصوتون لـ”الثنائي الشيعي” الحزبي في الانتخابات النيابية والبلدية.
(يتبع)