في جردةٍ لعام 2019، نجد أنّ يوم 17 تشرين الأول بالتحديد، كان تحولاً تاريخيًا في مصير لبنان، لم يحسب له أحد من اللبنانيين، ولم نتوقع أن تأخذنا “انتفاضة الواتساب” إلى ثورة وطنية جامعة، تنقلنا إلى العام 2020، بتحديات شديدة الصعوبة، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وأمنيًا.
إنّه تاريخ كسرِ الشعب لهيبة السلطة وفاشيّتها المستمرة منذ أكثر من 30 عامًا. وما قبل هذا اليوم، كان اللبنانيون يمضون روتين يومياتهم المعتادة تحت تأثير “حبّة المورفين” التي كان أركان السلطة يخدرونهم بها. أقوم بالجردة نفسها على طرابلس، في عملية عصفٍ ذهنيّ لكل ما شهدته هذه المدينة المتعبة على مدار عامٍ كامل. استرجع أرشيف تغطيتي لها في “المدن” من شهر كانون الثاني 2019 حتّى اليوم، أراقب الإخفاقات والإصابات، وما شُغِل وما كان يمكن أن يُشغل، وأتعاطى معها بشكلٍ بديهي على القاعدة نفسها، وكأنّ 17 تشرين الأول 2019 هو تقويم وحدٌّ فاصل في مسار مدن لبنان ومناطقه كلّها.
طرابلس 2019، لا يختلف حالها عن الأعوام السابقة، إلّا بانجازات باهرةٍ حققتها في ثورة 17 تشرين، بانقلابها على زعاماتها وتمزيقها صورهم، وبلقب “عروس الثورة” الذي حملته، وبتحولها قبلةٍ لجميع الساحات المنتفضة، التي هتفت لها تضامنًا وتآزرًا ضدّ السلطة، و”كلن يعني كلن”. لكنّها من غير هذه الإنجازات، لا تزال المدينة الأفقر على حوض البحر المتوسط، بأحيائها وأحزمة بؤسها، ولا تزال مدينة مهمّشة تعاني من سياسة القهر والعزل عن الخارطة اللبنانية بمقوماتها ومرافئها المعطّلة، مع استثناء مرفأ طرابلس البحري الذي يشهد حركةً تقدميّة واسعة رغم كل محاولات التضييق التي يواجهها.
فساد وانتخابات
في كانون الثاني 2019، كانت طرابلس تمضي أيامًا روتينية في معاناتها مع تراكمات فشل مجلس بلديتها ورئيسه السابق أحمد قمرالدين، الذي رفع بتاريخ 10 كانون الثاني دعوى قدح وذم وتشهير ضدّ عضو المجلس البلدي زاهر سلطان، وجاءت على خلفية ما نشره الأخير عبر صفحة فايسبوك، فيديو يتهم فيه قمرالدين بالتزوير في قرار تعيين لجنة عناصر الشرطة، بطريقة مخالفة للقانون، فأخذت القضية مجالًا واسعًا من السجال والحملات المنددة ببقاء قمر الدين في منصبه. في 8 شباط، انشغل اللبنانيون بحدثٍ مأساوي وقع في منطقة الكورة الملاصقة للمدينة، لدى إقدام المواطن جورج زريق على حرق نفسه، في باحة ثانوية سيدة بكفتين الأرثوذكسية، إثر نوبة غضبٍ أصابته من ضغوطات إدارة المدرسة نتيجة عجزه عن تسديد الأقساط المدرسية لأولاده. سريعًا، تحولت قصّته إلى قضية رأي عام، كحال آلاف العائلات اللبنانية التي تعيش تحت وطأة قهرٍ اقتصادي لا يحتمل.
سياسيًا، كان العام 2019 حافلًا في طرابلس، وتحديدًا منذ تاريخ 21 شباط، مع إصدار المجلس الدستوري قرار إبطال نيابة ديما جمالي بسبب الطعن بنتائج انتخابات 2018 الذي تقدّم به المرشح الخاسر على لائحة فيصل كرامي الدكتور طه ناجي. حينها دخلت المدينة في نفق معركة المستقبل “الهزيلة” حتّى تاريخ استحقاق الانتخابات الفرعية على المقعد السني الخامس في 14 نيسان. وعلى مدار شهرين، تحولت جمالي إلى “نجمة” المشهد، بإخفاقاتها وعثراتها، وخاض تحت عباءتها تيار المستقبل معركة كسر عظم مع نفسه ولأجله من دون وجود خصم، فكان هذا المقعد الشاغر معبرًا لتعويم أوهامٍ سياسية كبرى. وخلال هذين الشهرين أيضًا، كان يُخيّل للمرء العابر في طرابلس، بدءًا من بوابتها الجنوبيّة، أنّه في إمارةٍ زرقاء صرف، في سعي واضح لوصم المدينة بهذه الهويّة، على أنّها مدينة “المستقبل” وأمينه العام أحمد الحريري الذي لم يغادرها، تحت شعار “رصّ الصف” وتوحيد “البيت السّني الداخلي”.
ديما جمالي
وأبرز نتائج هذه الحملة الانتخابية التي خاضها المستقبل استرجاعًا لمقعد جمالي، كانت المصالحة التي عقدت بين الرئيس سعد الحريري واللواء أشرف ريفي تحت إشراف و”مباركة” الرئيس فؤاد السنيورة. ورغم أنّ ريفي كان منتظرًا أن يخوض المعركة الفرعية ضدّ جمالي، وهو كان يصعّد بمواقفه ضد المستقبل والحريري، لا سيما في آخر حديث له مع “المدن” قبل المصالحة، في 13 شباط، حين وصف الحريري بـ “المستسلم” والوزير جبران باسيل بـ “فقاعة الصابون”. لكنّ مصالحة 12 آذار في دارة السنيورة، أدت إلى تنحي ريفي عن ترشيح نفسه ووقوفه إلى جانب الحريري من جديد، ثمّ تنحى لاحقًا عن خوض المعركة حتّى ناجي صاحب الطعن.
في الأول من نسيان، شغلت جمالي الرأي العام بإخفاقاتها من جديد، بعد أن سُرّب لها مقطع فيديو في إحدى محطات جولاتها الشعبية في طرابلس، تخاطب الناس متهمةً المجلس الدستوري أنّه تلقى الرشى مقابل قبول الطعن بنيابتها، قبل ساعات قليلة من إصدار القرار رسميًا، ما دفع حينها رئيس المجلس الدستوري، القاضي عصام سليمان إلى رفع دعوى “إفتراء وكذب وقدح وذم ضد جمالي”.
مع توالي الأيام، تزاحم الحشد السياسي لجمالي إلى جانب جولات أحمد الحريري. في 10 نسيان، زارت النائبة بهية الحريري طرابلس، وكذلك فعل الرئيس السنيورة في 11 نسيان دعمًا لها، وفي 12 نيسان حطّ الرئيس سعد الحريري بطوافةٍ عسكرية في المدينة، لإطلاق آخر صفرات الإنذار الداعمة لمرشحته شعبيًا وسياسيًا قبل الدخول في مرحلة الصمت الانتخابي. لكنّ الصفعة الكبيرة التي تلقاها “المستقبل” ورئيسه في 14 نيسان، ورغم استعادة جمالي لمقاعدها من دون منافسة سياسية وزانة، كانت بنسبة الاقتراع الهزيلة التي لم تتجاوز 13 في المئة. مقابل هذه النتيجة، إلتزم نحو 87 في المئة من أهالي المدينة الاعتكاف عن المشاركة، وربما همّ من زرعوا بذور انتفاضة تشرين، بعد أن كان تاريخ الانتخابات الفرعية مناسبة لتشريع طرابلس على فقرها وحرمانها (راجع مقال طرابلس لسياسييها: “إنه الفقر يا غبي”).
عملية مبسوط
أمّا الحدث الأمني الأبرز الذي شهدته المدينة، فكان في ليلة عيد الفطر الدامية، في 3 حزيران، حين نفذ عبدالرحمن مبسوط عملًا إرهابيًا كبيرًا ومتنقلًا بين شوارع طرابلس ذهب ضحيته أربعة شهداء من المؤسسة العسكرية وقوى الأمن الداخلي، وهم، الملازم في الجيش حسن فرحات، الرتيب في الجيش ابراهيم صالح، والعسكريون في قوى الأمن الداخلي جوني خليل ويوسف فرحات.
على المستوى الصحي، قام وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال جميل جبق بثلاث زيارات إلى طرابلس، واحدة في شباط وأخرى في آذار وثالثة في نيسان، وكان الحدث الأبرز فيها هو تعمده زيارة منطقة باب التبانة، وقد جرى التسويق الشعبي لزيارته الصحية التي لاقت حينها أصداء إيجابية على قاعدة: “وزير حزب الله في حيّ باب التبانة”.
باسيل غير مرغوب به
في 7 تموز، أصر الوزير جبران باسيل أن يزور طرابلس، رغم كلّ الحملات الشعبية التي شنّتْ رفضًا لمجيئه، فبدتْ زيارته برفقة الوزير الياس بو صعب أشبه بغارة عسكرية، فنُصّبت الحواجز ابتداءً من مفرق القلمون مرورًا بطرابلس وصولًا إلى العبدة، وانتشر آلاف عناصر الجيش على الطرقات والمفارق، في ظلّ الامتناع السياسي عن استقباله، نتيجة الضغط الشعبي.
بلديًا، استطاع مجلس بلدية طرابلس أن يسحب الثقة من الرئيس السابق أحمد قمر الدين في 16 تموز، بعد معركة طويلة خاضها تمسكًا بمنصبه من دون أن ينجح بتعويم نفسه سياسيًا. وبعد تأجيل 3 مرات لجلسة انتخاب رئيس جديد للمجلس، نتيجة المعارك بين الأعضاء تحت الضغط السياسي، نجح المجلس في 2 آب أن يؤمن النصاب لانتخاب المرشح المستقل رياض يمق رئيسًا جديدًا للبلدية.
على المستوى الإنمائي، لم تشهد طرابلس أيّ تطورٍ ملحوظٍ سوى ببعض المشاريع التي لم تكتمل، لا بل يمكن القول أن حالها ساق إلى مزيدٍ من التدهور، نتيجة الفساد المستشري في مشاريع تأهيل طرقاتها، ومن دون حلّ أزمة النفايات والمطمر، وكذلك مع إغلاق فندقها الوحيد “الكوالتي إن” مع بداية شهر نيسان، ومن دون تعيين رئيس جديد للمنطقة الاقتصادية، بعد أن شغر المنصب بتولي رئيسته السابقة ريا الحس حقيبة وزارة الداخلية.
ما بعد 17 تشرين
بدأت بذور انتفاضة طرابلس الشعبية في 17 تشرين الأول، مع انطلاق حملات تمزيق صور السياسيين، قبل أن تتوالى الأيام وتحصد لقب “عروس الثورة”. أعطت طرابلس آملًا كبيرة للبنانيين الذين توافدوا نحوها من مختلف المناطق. وبكلّ ما قدّمته على المستوى المدني والتكافل الاجتماعي والثوري، أثبتت أن حقيقتها تنافي كلّ الاتهامات المسيئة والمغرضة التي كانت تكيّل ضدّها ووصمها “مدينة التطرف والإرهاب”. لم تتوقف المسيرات في طرابلس المدنية والطلابية والنسوية، وكان من بينها في 13 تشرين الثاني، مسيرة واحدةً ضدّ زعماء المدينة، حملت رمزية كبيرة، وقد جالت بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة. في 14 تشرين الثاني، رسمت طرابلس وجه الشهيد علاء أبو فخر على جدار مبنى الغندور في وسط ساحة النور برشية الفنان الفلسطيني غياث الروبة، وفي 15 تشرين الثاني، أسقطت ترشيح النائب السابق محمد الصفدي بعد أن ثارت ضدّه.
عاصمة الثورة
وعلى مدار الأشهر الماضية، شهدت طرابلس عددًا كبيرًا من المبادرات في الشارع، على مستوى التضامن وخيم الحوار السياسي، وقاومت كلّ محاولات شيطنتها وزجّها بمعارك مع الجيش اللبناني. وآخرها، كان ليلة الثلثاء الدامية في 26 تشرين الثاني، حين عاشت المدينة اختبارًا صعبًا بعد أن وقعت ضحية مجموعة من المندسين و”العصابات” المعروفة التي افتعلت اشتباكًا فتنويًا مع الجيش.
لاحقًا وحتّى اللحظة، وفيما تقاوم طرابلس للحفاظ على شعلة انتفاضتها بتطهيرها من المتسلقين والمندسين سياسيًا وأمنيًا وخارجيًا، يبقى التحدي الأصعب لها على أبواب العام 2020، أن تقطع الطريق على كلّ من يسعى خطفها مجددًا نحو مربّع مظلوميتها الأول، وأن تكون واعية لدورها المحورية في المرحلة المقبلة، ضدّ حكم الفاسدين والمصارف: عاصمة لبنان الثانية، وعاصمة الثورة الأولى.