هوت الجمهورية اللبنانية. لبنان الذي نعرفه، والذي جدّد نفسه منذ 1920 إلى الاستقلال، مروراً بحربين أهليتين، وأعاد إنتاج تركيبته ذاتها، انتهى.
فشلت انتفاضة عام 2005 في بناء دولة مؤسسات مستقلة، فاضمحلت قوى 14 آذار واستبد الاحباط بجمهورها. اليوم يفشل نموذج قوى الثامن من آذار في تأمين استمرارية التركيبة التي أنتجتها في العام 2016. انفجرت انتفاضة جديدة تخطت في حساباتها كل المناطقية والمذهبية والطائفية، للمطالبة بالذهاب نحو جمهورية ثالثة. جهدت القوى السياسية المستحكمة لإعادة تثبيت نفوذها. فحاولت سابقاً اختراق التظاهرات وإنهائها بالقوة. لكنها فشلت. فعادت المحاولة بترتيب حكومة محاصصة، اختلف أفرقاؤها فيما بينهم على الحصص، في أقصى درجات الاحتقار للبنانيين.
السلوك نفسه
أساءت قوى الثامن من آذار إلى نفسها بنفسها. كانت هذه القوى قادرة على التعامل بذكاء أكبر في عملية تشكيل الحكومة، وإخراجها وفق تصور جديد بعيداً من المستشارين والحسابات السياسية والشخصية. لكن هذه القوى لا تترك فرصة إلا وتظهر فيها ميلها الأصلي للنزاع فيما بينها على المكاسب والحصص. كان بإمكانها تشكيل الحكومة قبل أيام عديدة، ولا تكون مفضوحة، ولا غارقة في معارك طواحين الهواء بين حلفاء حزب الله. فشل حزب الله في تقديم صورة منمّقة لحكومته مع حلفائه، يتم تقديمها للمجتمع الدولي بأنها حكومة تكنوقراط. لكن أم المهازل كانت بإطلاق إسم الاختصاصيين على الحكومة، التي تعطّلت بسبب الخلافات على الحصص والمكاسب والمواقع والأثلاث المعطّلة.
استمر السلوك في عملية التشكيل وفق العقلية التقليدية، وكأن شيئاً لم يحصل في لبنان. ففضح الحلفاء أنفسهم في صراعهم على أدوارهم ومواقعهم، بشكل قدّم صورة بالغة السلبية عن هذه الحكومة. وهذا ما دفع بإرسال إشارات عديدة من قبل بعض الدول، غير موافقة ولا راضية على هكذا تشكيلة حكومية.
لا شرعية دولية
وحسب ما تكشف مصادر متابعة، فقد وصلت رسالة أميركية واضحة إلى اللبنانيين بأن هكذا حكومة لا يمكن أن تكون مقبولة ولن تحصل على أي مساعدات. كذلك الأمر بالنسبة إلى ما بعد التصنيف البريطاني لحزب الله بشقيه العسكري والسياسي ووضعه على لائحة الإرهاب، توالت المواقف الرافضة لحكومة حسان دياب. وتكمل الرسالة الأميركية أن اختبار أي حكومة ستتشكل هو تطبيق الإصلاحات والاستجابة إلى مطالب الشعب اللبناني. وبالتالي، الرسالة واضحة برفض المجتمع الدولي التعاطي مع حكومة المحاصصة هذه، والتي لم ترض مكونات المجتمع اللبناني المختلفة.
إلى جانب الرسالة الأميركية وصلت أيضاً رسالة عربية، بأن كل الكلام عن تقديم الدعم لهذه الحكومة فور تشكيلها غير صحيح وغير دقيق، ولا يمكن لأي طرف أن يدعم هكذا حكومة. وستستمر الأزمة الإقليمية بالإنعكاس على لبنان، وستؤدي إلى المزيد من التضعضع بين القوى السياسية، وخصوصاً فريق الأكثرية الموالي لحزب الله الذي يفتقد القدرة على السيطرة. فالمنطق الذي مارست فيه هذه الأكثرية الأداء السياسي المعتاد، أدى إلى وصول الثورة إلى نقطة اللاعودة. وتغير أشكالها وألوانها، تارة في قطع الطرقات، وطوراً بالمطالبة بتشكيل حكومة جديدة لمستقلين وإختصاصيين، أو مواجهة المصارف، والتي حاول البعض الاستفادة منها لتحويل الأنظار عن المواجهة السياسية. فاستعادت الثورة “سياسيتها” في التظاهر أمام مجلس النواب لتأكيد توجهاتها.
الخطاب الإيراني
تمرّ المنطقة في مرحلة إعادة تموضع، هي التي تنتج كل هذا التضعضع. وهذه نتيجة مواقف متعددة، روسية، سورية، إيرانية، بمواجهة مواقف دول أخرى عربية أو غربية. وقد حدد مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي، الصراع على هذه الحكومات في لبنان والعراق، حين اعتبر أن الأميركيين يريدون حكومات عميلة لهم. وهذا ما لن توافق عليه إيران. وبذلك يتضح الصراع الذي ينعكس على القوى السياسية.
بنتيجة هذا الصراع والتضعضع، لم تعد قوى 8 آذار فريقاً واحداً. يضربها عدم التناغم والتنسيق والانسجام. يتجلى مثلاً في الصراع بين جميل السيد ونبيه بري، جبران باسيل وسليمان فرنجية، بينما حزب الله غير قادر على التدخل وحسم هذه الخلافات. همّه الحفاظ على بنيته وقوته. هناك عناصر خارجية تفرض نفسها، لا تسمح للحزب بالتدخل، وهي سيكون لها عوامل تأثير كبيرة لإنجاز الحلول. فأي حلّ لا يمكن أن يتحقق من دون موافقة دولية. ولذلك، لا تبدو هناك رؤية واضحة. وهذه الضبابية وحدها تشكل أكبر عوامل الضغط على هذا الفريق، وسط بقاء الأمور على حالها، وهي كفيلة باستمرار التحركات بقوة، بسبب اللامبالاة من قبل القوى السياسية الحريصة على إعادة إنتاج التركيبة ذاتها.
تعتبر بعض المصادر أن هناك تدحرجاً بطريقة غير منظمة، تطيح بأي تفاهم بين هذه القوى المتحالفة، وسط غياب لأي مظلة إقليمية ودولية. ومعروف أن كل القوى السياسية كانت تعتمد على هذه المظلة لتشكيل الحكومات وترتيب أمورها وأوضاعها المالية. وبسبب غياب هذه المظّلة يبرز الضعف في الأداء وتسيطر التناقضات، والتي ستودي بلبنان إلى مزيد من الانهيارات المالية والسياسية والمؤسساتية. سيكون لبنان أمام خيارين، إما الذهاب إلى دولة حديثة بعد صعوبات كثيرة وصدامات أكبر، وإما ستنتج تداعيات خطرة لن تكون متماشية مع آمال اللبنانيين وتطلعاتهم، ولن يكون أقل عنصرية أو مذهبية من خطابات بعض القوى السياسية والتي ترتكز على نموذج يتعمم في دول المنطقة المحيطة.