منذ انطلاق ثورة 17 تشرين الأول والرفيق نايا شحود “أبو إيلي” لا يفارق مخيلتي. وهو الذي غادرنا في 31 تموز 2016 تاركاً خلفه حانته وروادها الكثر، بعد أن سئم هذا العالم المظلم، فسلم نفسه للمرض وقرر – كما يفعل المحاربون عادة- الموت الطوعي وبصمت تام.
الجدل الذي برز مؤخراً بين الثوار حول العنف الثوري وغزوة شارع الحمرا، ولا سيما بين من يدّعون اليسارية والتقدمية، أعاد إلى ذاكرتي مجدداً مواقف الرفيق نايا الرافضة للخنوع أمام مزايدات “تجار المقاومة” الحاليين بالقضية المركزية، أو بأي قضية من القضايا المعيشية الأخرى.
حجارة “بوابة فاطمة”
بعد تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي في أيار من عام 2000، درجت العادة، وتحت شعار السياحة الجهادية، أن يزور الناس “بوابة فاطمة”، على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، ويرشقوا الدوريات الإسرائيلية بالحجارة، في لوحة استعراضية غالباً ما كانت توثق بالصوت والصورة، على غرار ما فعل الأكاديمي الفلسطيني الأميركي الراحل إدوارد سعيد، في استعراض قد يصح وصفه بالاستشراق.
وهي عادةٌ دفعت بنا آنذاك إلى دعوة نايا لمرافقتنا إلى الجنوب لزيارة “بوابة فاطمة”، ورمي الحجارة. فما كان من رفيقي إلا أن صرخ بنا “أكيد منروح منكب (نرمي) الحجارة على الإسرائيليين وعلى حركة أمل وحزب الله واليونيفيل كمان (كذلك)”. تصريح الرفيق نايا يتجاوز الفكاهة والسخرية على رفاقنا الاستعراضيين، ويعالج لبّ المسألة، على اعتبار أن المناضل الحقيقي لا ينصَبّ على جزء من المشكلة فقط، بل يقف إلى جانب الحق، وربما يعادي الفاشية بأي شكل أو لون، سواء أكان في السلطة أو في ساحات النضال.
تلك “الأوليغارشية”
لعل نايا كان ليكون من المؤيدين للهجوم على المصارف اللبنانية وحتى تكسير واجهاتها، وهي التي تواطأت مع الطبقة السياسية اللبنانية واستفادت لسنوات طويلة من الصفقات والهندسات المالية، تحت ذريعة أن النظام المصرفي قادر وحصين أمام أي سقوط اقتصادي. ولكن في الوقت نفسه، قد يطلب من الرفاق وغلاة الهجوم على المصارف أن يحترموا آراء رفاقهم من المواطنين، الذين يرَون في الهجمة هذه بصمات حزب الله الذي يحاول قيادة النظام المصرفي، بما فيه الصيارفة، للسيطرة على سوق العملة الصعبة، والتي يهربها الحزب إلى سوريا، ويستخدمها في إدارة اقتصاده المتوازي. هذا والناشطون أنفسهم يعتبرون أن النظام المصرفي هو مجرد واجهة للطبقة الحاكمة أو الأوليغارشية. والأوليغارشية مصطلح درج استخدامه في الفترة الحالية من قبل بعض الثوار، من دون أن يعي هؤلاء مفهومه. فلما الهجوم على الفرع دون الأصل؟
أثناء انشغال “الرفاق” بتكسير واجهات المصارف في الحمرا حصراً، قامت “الأوليغارشية” بمحاولة تمرير حكومة “حسان” طروادة، التي من دون أدنى شك لا تشاطر غلاة الصراع الطبقي حلمهم في تدمير نظام المصرف. وهي حكومة ليست في نهاية المطاف سوى ورقة تين لمشروع مذهبي إقليمي، يعادي مفهوم العروبة ومشتقاته، ويضعف موقف المناضلين الحقيقيين في سبيل تحرير فلسطين، وربما الأهم تحرير العقل العربي.
النزعة الفاشية
العنف الثوري ليس بمرفوض، بل قد يكون الحل الوحيد بوجه هذه الطبقة المجرمة. لكن الأمر المرفوض هو الفكر الفاشي، لا سيما في ثورة تطالب بتدمير هذا النظام الطائفي العنصري الذي، وبالأسلوب ذاته لبعضٍ من الثوار، يهزأ ويستخف بمعتقدات الناس واختلاف آرائهم. الثورة هي للمطالبة بوطن حديث يليق بالقرن الواحد والعشرين، وطن يحكمه حكم القانون وتسوده العدالة الاجتماعية. وتصوير الصراع بأنه صراع طبقي وبأن تدمير المصارف هو هدف الثورة، لا يختلف كثيراً عن رشق الحجارة على الدوريات الإسرائيلية والابتسام لعدسة الكاميرا.
رفيقي نايا كان ماركسياً لينينياً، ولكنه كان من أشد المنادين – وإن بنكهته الخاصة- بالديموقراطية والسيادة. ولو كان معنا اليوم لكان شارك في الهجوم على المصارف ورمى الحجارة على الواجهات المصرفية، ولكن بمتغير بسيط. رفيقي نايا كان ليكمل نضاله ضد السلطة ولن يخجل أو يخاف من تسمية الأشياء بأسمائها، ويصرخ في شوارع بيروت “كلهم يعني كلهم وحزب الله والفاشية إثنان منهم”.