بيروت إن غضبت

19 يناير 2020
بيروت إن غضبت
هادي جعفر
هادي جعفر

ليلة أخرى من الغضب والنار مرّت على بيروت…

في يوم من أيام بدايات الغضب الثوري، خرج الثوار الذين يتراكم عندهم وعي المواجهة السياسية مع السلطة الحاكمة، بثلاث مسيرات من مناطق مختلفة جابت كل منها محطات عدة قبل الالتقاء في وسط البلد.

أراد الثوار من هذه المسيرات، القول بأن اتهام جهة ما، طائفة ما، أو سكان حي ما باختطاف الثورة غير صحيح، وهو مجرد وهم يسوقه السلاطين وإعلامهم لإيهام الجمهور بان حزب الله – الذي يسوق له لمقتضيات إخماد الثورة على أنه (البعبع)- خطف الثورة.

طبعا لا حاجة للقول أن من يسوق لهذا (البعبع) هم المجموعات السياسية التي سوقت خلال عقود، وتسوّق عند كل مفصل لجمهورها أنها خط الدفاع الأول عن سيادة لبنان بوجه من يريد اختطاف البلد لصالح المحور الإيراني.

والصحيح هو أن حزب الله لا يريد اختطاف البلد. حزب الله أحكم قبضته على البلد وجيّره على بياض لصالح محور إيران وحلفائها، ولكن بتسوية مع مدّعي مواجهته؛ تسوية غُلّفت طويلا بكذبة مقتضيات المصلحة الوطنية، وبأن فلانا أم الصبي، وعلانا صمام أمان البلد، وآخر على حكمته تعقد الأمال دوما بتدوير الزوايا لأجل مصلحة البلد.. والحقيقة أن الزوايا كانت تدوّر وحكايا الحكمة والتعقل كانت تقصّ، لأجل إرضاء الناس وتنويمهم وتقاسم مقدّراتهم بالتكافل والتضامن بين أم الصبي والبعبع ومن لفّ لفيفهما.

راكم الثوار اذاً وعيا سياسياً جعلهم يلتفون على محاولات شيطنة الغضب، و ينطلقون في مسيرات جامعة، لا لبس بميثاقيتها، والميثاقية هي أكثر مرادفات اللغة استخداما في حياة الطبقة السياسية اللبنانية كمرادف لطيف يقصد به دائماً عدالة القسمة بين أفراد العصابة.
هذا المشهد الجامع أزعج أركان السلطة طبعا، ومن هنا نفهم كيف يتحد جهازي مكافحة الشغب وحرس المجلس في فن قمع الثورة.. أولى خطواتهم كانت مجددا، إحراق الخيم، وليس بمستغرب هذا الخوف لدى أهل السلطة من مشهد الخيم، والسعي الدائم لطمسه..

فالخيمة تخالف كل ما بني مشروع اغتصاب وسط البلد عليه، يوم غيروا إسمه إلى سوليدير. والخيم لا تليق بفخامة قصورهم ومكاتبهم ومواكبهم التي اعتادت أن تتمختر في وسط بلدٍ خال إلا منهم ومن مرافقيهم ومستشاريهم ومتسلقي رضاهم وبعض الإعلام وعمّال النظافة ورجال الأمن.. هكذا حولت “سوليدير” وسط البلد إلى مكان بلا روح، فارغ من أصوات الباعة وعرباتهم، ومن مقاهي المثقفين ونرجيلة المسنين ولقاءات العاشقين.. وصار الوسط غريبا عن بيروت، فالمسافة رغم قصرها، شاسعة بين منطقتي الخندق مثلا والبلد، وكأن كل منهما في بلد.

بعد أن أحرقوا الخيم، وأمعنوا في التعدي على المتظاهرين، ولم يسلم من جبروت قمعهم من لجأ الى المسجد، ربما ظنا منه بأن السلطة في لبنان تعرف قول أبي سفيان “من دخل المسجد فهو آمن”، غرّد أهل السلطة، يتباكون على بيروت، ويتهمون الثوار بتدميرها.

لا يا سادة، من دمر بيروت هو من أغرقها بالنفايات، وبسمسرات الصفقات حتى نبعت مياهها الآثمة طوفانات في شوارعها.. لا يا سادة من دمر بيروت هو من خنق وسطها لسنوات بجدران عزل، ومن أقفل أبواب بحرها بأسلاك فصل، وسلم الشواطىء للتجار، وجرف الرمال وباعها، واحتل المحال عنوة عن ارادة ملاّكها، وفرض الخوّة على أهلها عبر ضرائب جائرة تذهب إلى جيوب مجالس بلدياتها، ولوّث هواها وغلّفها بالسواد، وجعلها عطشى، وحوّل مساحاتها الخضراء إلى مجمعات تجارية ومشاريع واستثمارات.

انتم احتللتم بيروت وسرقتم بيروت وخنقتم بيروت، إلى أن جاءها الثوار.. بالأمس بيروت كانت جميلة، كامرأة غاضبة، ثائرة، تلفظكم عنها، أنتم والبلاط الذي ألبستم به أعمدة أبنيتها.. بيروت تخلعكم عنها، وما الأمس إلا غيض من فيض بيروت ان غضبت.

المصدر خاص بيروت نيوز