في العام 1982 بعد الإجتياح الإسرائيلي سجّل رفيق الحريري، رجل الأعمال آنذاك وموفد الملك فهد إلى لبنان وسوريا في أكثر من مهمة، أول دخول كبير إلى الساحة اللبنانية. في كتابه “تجربتي مع رفيق الحريري” يقدم الوزير السابق الفضل شلق صورة معبرة عن تناقضين سيحكمان تجربة رفيق الحريري في لبنان طوال الفترة الممتدة من ذلك العام حتى تاريخ اغتياله. يروي شلق كيف أنه بينما كانت الدبابات السورية تستعد لمغادرة بيروت والجبل إلى البقاع كان رفيق الحريري يوعز باستقدام عدد كبير من الجرافات لإزالة آثار الحرب في بيروت تمهيداً لإعادة الإعمار. ولكن الحرب استمرت وعادت القوات السورية إلى بيروت وتأجل دخول الحريري إلى نادي السياسة اللبنانية عشرة أعوام. لم يكن الفضل شلق الوحيد الذي عاش تجربة رفيق الحريري وخرج منها وكتب عنها بعد اغتياله. ولكن حالة رفيق الحريري بقيت على حالها وقويت واشتدت. حالات الخروج والنزف تكررت وزادت مع الرئيس سعد الحريري وإن في ظل ظروف مختلفة وكانت موجعة أكثر.
كيف يبقى قوياً؟
كان رفيق الحريري يعرف كيف يبقى قوياً داخل اللعبة حتى لو لم يكن حاضراً وظاهراً في الملعب. عرف كيف ينسج علاقات مع مختلف الأطراف المتقاتلة وكيف يؤسس لمرحلة ينتظرها من دون أن يحرق الوقت أو يحترق. اعتقد أنه يمكن أن يكون له دور في مرحلة التحضير للإتفاق الثلاثي اواخر العام 1985 ولكن سقوط هذا الإتفاق لم يسقطه وعندما سنحت له الفرصة لأن يقتنصها فعل ذلك في العام 1989 من خلال مساهمته في الوصول إلى اتفاق الطائف. كان الرجل يتمتع بكل مفاصل القوة. موقع متقدم في المملكة العربية السعودية. حضور فاعل على المستوى الدولي من حيث العلاقات مع أكثر من رئيس وأكثر من دولة مما جعله حاجة للنظام السوري عندما كان هذا النظام محاصراً بتهم دعم الإرهاب في مرحلة الثمانينات. وكان يتمتع أيضاً بقوة الشخصية والحضور وبقوة المال والأعمال الأمر الذي جعل الآخرين يُقبلون عليه ويَجرون وراءه بينما كان هو يختار من يرى أنه مناسب لخدمة مشروعه الذي لم يكن سراً من أسرار شخصيته الكثيرة.
على رغم حاجة النظام السوري إليه إلا أنه لم يكن يطمئن له وبقي بالنسبة إليه الشر الذي لا بد منه ولذلك كان عليه أن يبقيه تحت الضغط والضبط والمراقبة. هكذا رفض رئيس النظام السوري حافظ الأسد طلب رئيس الجمهورية الياس الهراوي أن يكون رفيق الحريري رئيساً للحكومة بعد الطائف مباشرة وكان عليه أن ينتظر حتى ما بعد انتخابات 1992 الإنقلابية التي لم يترشح لها لكي يسمح له بذلك بعدما أصبحت الغالبية النيابية موالية تماماً له. دخل رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة ذلك العام بينما كان رئيس الجمهورية يقيم في بناية يملكها الحريري في الرملة البيضاء قرب مقر المخاربات السورية في بيروت. ولكنه منذ ذلك التاريخ بدأ مرحلة صعوده الكبير إلى السلطة وإلى تكوين حالة الحريرية السياسية التي أعطته موقعاً متقدماً ومتحكماً أحياناً في اللعبة السياسية مع أن النظام السوري كان يمكنه إخراجه من الملعب عندما يريد.
تحدي لحود
كان من المفترض أن يأتي قائد الجيش العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية في العام 1995 عندما تنتهي ولاية الرئيس الياس الهراوي. قبل عامين تقريباً قتل باسل الأسد نجل الرئيس السوري بحادث سيارة وكان من المفترض أيضاً أنه كان يتم تأهيله لتولي الرئاسة في سوريا خلفاً لوالده الذي كان يشتد عليه المرض. يعتقد كثيرون أن هذا الحادث سهل عملية التمديد للرئيس الياس الهراوي ثلاثة أعوام ولعودة الأبن الثاني للرئيس السوري بشار الأسد من لندن إلى سوريا ليكون هو الوريث البديل وذلك مع الأخذ بالإعتبار كل ما قيل لاحقاً عن أن الحريري الأب صنع هذا التمديد بالتنسيق مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ومع العماد حكمت الشهابي واتهامهم لاحقاً أيضاً أنهم كانوا يشكلون ثلاثي المؤامرة على النظام السوري باعتبارهم يمثلون السنية السياسية وتتلاقى أهدافهم في وراثة نظام حافظ الأسد.
بعد أقل من عام خاض رفيق الحريري الإنتخابات النيابية وبدأ تكوين قوة سياسية أساسية داخل مجلس النواب وإن كان حمل على متن لائحته ودائع سورية لأنه كان يدرك أن الطريق طويل وأن الحرب مستمرة بين الجرافات والدبابات. هذا الدخول القوي لم يمنع فرض انتخاب العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية في العام 1998. فجأة وجد رفيق الحريري نفسه خارج السلطة. لكنه لم يستسلم ولم يسافر ولم يتنازل. ذهب إلى التحدي في انتخابات العام 2000 النيابية ليسجل انتصاراً كبيراً ألغى معه كل من يمكن أن يعارضه داخل الطائفة السنية وأبعد حتى الودائع السورية من لوائحه بالتضامن والتكافل مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط. مستفيداً من هذا الإنجاز عاد الحريري إلى السراي بعد تلك الإنتخابات التي ترافقت مع حدثين كبيرين: انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب في 25 ايار ووفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران وتأمين وصول خلفه بشار إلى سدة الرئاسة السورية.
بشار وفريقه
بشار وفريقه في سوريا ولبنان حاولوا تطويق رفيق الحريري ولكن كانت هناك أبواب جديدة تفتح من حوله وتوسع آفاق اللعبة السياسية والتحدي. بقي الحريري حذراً في التعاطي مع انتفاضة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير ولقاء قرنة شهوان ولكنه لم يكن بعيداً عن هذا الجو الجديد الذي بدأ يولد في لبنان. إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي طالب بانتخابات رئاسية في لبنان في موعدها وفق الأسس الدستورية وبسحب الجيش السوري ونزع سلاح “حزب الله” شكل مفترقاً كبيراً. كان الحريري معارضاً للتمديد للرئيس لحود وتعرض للتهديد المباشر من رئيس النظام السوري. وافق على التمديد تحت التهديد وأُخرج من الحكم ليتم تشكيل حكومة برئاسة عمر كرامي مع بدء التحضير لتنفيذ قرار اغتياله قبل أن يتمكن بالتحالف مع جنبلاط ولقاء قرنة شهوان والبطريرك صفير من الفوز بأكثرية نيابية في انتخابات ربيع 2005. في 14 شباط اغتيل. حصلت انتفاضة 14 آذار. انسحب الجيش السوري من لبنان. فازت قوى 14 آذار بالأكثرية النيابية. بقي سلاح “حزب الله”.
تجربة سعد الحريري
تجربة سعد الحريري اختلفت عن تجربة والده. حركة رفيق الحريري كانت تصاعدية بينما حركة سعد الحريري تراجعية. بعد انتخابات العام 2009 التي حصدت فيها قوى 14 آذار الأكثرية دخل سعد الحريري إلى السراي الحكومي بعد تجربة قاسية في 7 أيار 2008 عندما نفذ “حزب الله” غزوة بيروت والجبل وحاصره في قصر قريطم قبل أن ينتقل إلى بيت الوسط وبعد تسوية الدوحة التي أمنت انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
عندما أُخرج سعد الحريري من السراي بعد انقلاب 12 كانون الثاني 2011 ضده من مقر العماد ميشال عون في الرابية أَخرج نفسه من لبنان إلى غربة اختيارية أضعفت موقعه وتياره. صحيح أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تشكلت بقوة الضغط التي مارسها “حزب الله” ولكن سقوطها في 22 آذار 2013 بعد إعلان ميقاتي استقالته لم تكن نتيجة ضغط ومواجهة بل بسبب فشلها أولاً. تسمية الرئيس تمام سلام بالإتفاق مع الرئيس سعد الحريري الموجود في الرياض لم تكن بمستوى سقوط تجربة حكومة الرئيس سليم الحص في العام 2000 وعودة الرئيس رفيق الحريري إلى السراي.
تسوية ثنائية
بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عاد الرئيس سعد الحريري إلى السراي. كان من المفترض أن تكون هذه العودة عنصراً مساعداً في تأمين التوازن داخل الحكم ولكن التسوية الثنائية بينه وبين التيار الوطني الحر طغت على التسوية الرئاسية. ثمة مآخذ كثيرة على الطريقة التي تصرف بها ولا سيما تجاه التحالفات التي خاض على أساسها انتخابات أيار 2018. صحيح أنه عاد إلى السراي بعد تلك الإنتخابات ولكن دائماً من تحت سقف التسوية التي ألزم نفسه بها ولذلك بقي حضوره ضعيفاً وكان خروجه من الحكم مستقيلاً تحت ضغط ثورة 17 تشرين كبيراً.
يبقى كيف يمكن أن يتصرف الرئيس سعد الحريري بعد استقالته وبعد دخول الدكتور حسان دياب إلى نادي رؤساء الحكومات وإلى دار الفتوى التي كانت أفتت بأن لا رئيس للحكومة إلا سعد الحريري أو من يختاره. هل يستطيع إعادة جمع تياره وشارعه؟ هل يستمر في بناء خطاب معارض؟ كيف سيرسم خطوط علاقاته ومواقفه من رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر والوزير جبران باسيل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي؟ لا شك في أنه يواجه اليوم تحدياً كبيراً. إذا نجحت حكومة دياب في تأمين طريق للخروج من الأزمة الحالية وكانت تجربتها مناقضة لتجربتي حكومتي الحص وميقاتي فهذا يعني أن هناك تجربة أخرى مؤهلة للبقاء غير تجربة الإستعانة بالرئيس سعد الحريري وهذا الأمر يضعه أمام تحد كبير لأن طريق العودة إلى السراي لا بد من أن تكون مستوحاة من دروس رفيق الحريري لا من التسويات التي لا تصنع انتصارات بل تفرض تنازلات.