بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
تعد عملية الباص (معاليه أكربيم أو ممر العقرب) من أكبر عمليات المقاومة الفلسطينية، من ناحية الخسائر البشرية، التي يعترف بها الإسرائيليون في خمسينيات القرن العشرين.
وهي عملية لم تلحظها الكثير من كتابات الباحثين والمؤرخين لقضية فلسطين، كما لم تشر إليها معظم أدبيات المقاومة الفلسطينية المعاصرة.
وتتحدث الوثائق البريطانية بالتفصيل حول هذه العملية التي وقعت على بُعد 50 كيلومتراً جنوب شرقي بير السبع (على مسافة 20-30 كيلومتراً من الحدود الأردنية) بتاريخ 17 آذار/ مارس 1954[1]، حيث قامت مجموعة من رجال المقاومة بمهاجمة باص إسرائيلي قادم من إيلات (أم الرشراش) باتجاه بئر السبع، فقتلت 11 إسرائيلياً وجرحت ثلاثة آخرين.
وتسبب الحادث بموجة غضب واسعة في الكيان الصهيوني.
وقد حمَّل الإسرائيليون السلطات الأردنية المسؤولية عن الحادث، حيث قادت آثار المهاجمين إلى الحدود الأردنية.
غير أن السلطات الأردنية رفضت هذه الاتهامات، وتعاونت بشكل كامل مع لجنة الهدنة المشتركة، وزودتها بأفضل خبرائها للوصول للمتهمين.
ولم تتهم لجنة الهدنة الأردنيين، ولكنها على العكس، عبَّرت عن تقديرها لتعاونهم.
غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي موشيه شاريت رأى أن هذه العملية قد أُعدَّت ونُفذت بدقة، وأَصرَّ على ضرورة تحمُّل الأردن المسؤولية.
وادعى الإسرائيليون أن المهاجمين مُدرّبين عسكرياً بشكل جيد، وأنهم حسب التعبير الإسرائيلي ليسوا “عصابة قتلة” من البدو، وليسوا كذلك مدفوعين للعمل من المفتي الحاج أمين الحسيني.
وقدم الإسرائيليون أسماء ثلاثة من البدو، هم محمد القصقاص، وسليمان السعيدي، وصراص (Saras) أبو كريشان، وينتمون إلى قبيلة السعيديين، وقالوا إنهم قدموا من منطقة الصافي جنوبي البحر الميت.
(ملاحظة: الأسماء الثلاثة مكتوبة بالأحرف الإنجليزية، ولم يتم التأكد تماماً من دقة الكتابة بالأحرف العربية، لعدم وجود مصادر عربية مقابلة).
سعى جلوب باشا قائد الجيش الأردني للدفاع بقوة عن الموقف الأردني؛ وأرسل عدة تقارير للخارجية البريطانية في لندن.
وذكر أنه بناء على التحقيقات المكثفة التي قام بها ومساعدوه، وصل إلى نتيجة أن العملية تمّ تنفيذها على يد مجموعة بدوية منظمة. وكان أحد أبرز الاحتمالات التي ركز عليها هي أن المهاجمين جاؤوا من الجانب المصري (إما من قطاع غزة أو من سيناء)، وأن “العصابة” مركزها “القصيمة”، وأنها موجهة من الحاج أمين الحسيني، مع غض السلطات المصرية النظر عنها.
بعد عدة أشهر، وتحديداً في تشرين الأول/ أكتوبر 1954، تلقى البريطانيون تقريراً يشير إلى أن “شخصية قيادية في جماعة الإخوان المسلمين، بالاشتراك مع قليل من ضباط الجيش المصري من الإخوان، ممن يعسكرون في غزة؛ قاموا بإعداد الخطط لمهاجمة الباص الإسرائيلي، على خط مساره الروتيني في النقب، وأنهم رتَّبوا مع بعض أفراد البدو من قبيلة العزازمة بمنطقة بير السبع تنفيذ خطة الهجوم”.
فإذا ما وضعنا في أذهاننا، ما أشرنا له سابقاً من أن كامل الشريف اتخذ من القصيمة مركزاً للتدريب العسكري، وأنه كان يقوم بتسليح العزازمة، بالإضافة إلى دور عدد من ضباط الإخوان مثل عبد المنعم عبد الرؤوف، ومن يتعاون معهم من الضباط الأحرار، فإننا يمكن أن نستنتج أن هذا التقرير البريطاني قريب للحقيقة؛ وأن احتمال أن العملية تمّ تنفيذها بإشراف الإخوان هو احتمال كبير.
عندما التقى كاتب هذه السطور مع كامل الشريف بعد 52 عاماً من العملية (عمَّان، 3 آب/ أغسطس 2006)، لم يتذكرها الشريف على وجه الدقة، لكنه لم ينفِ احتمال أن تكون من تنفيذ بدو تحت إشرافه. أما هاشم عزام (وهو من الإخوان المسلمين الفلسطينيين، منذ سنة 1952، من مخيم عقبة جبر في الضفة الغربية، ومن رواد حركة فتح في الضفة الغربية) فيرى في مقابلة مع الكاتب (عمَّان، 14 آب/ أغسطس 1998) أن هذه العملية تمت بإشراف الإخوان؛ ويضيف “لقد أُخبرت أن اثنين نفذا هذه العملية… وكلاهما مسلمَيْن ملتزمَيْن؛ وكانا يقولان إنهما كانا مع أبي جهاد وكامل الشريف”.
من جهة أخرى، يذكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس في كتبه “حروب إسرائيل الحدودية”، أنه قد ورد إلى المخابرات الإسرائيلية تقرير من صحفي باكستاني، قامت بتجنيده عميلاً لها؛ حيث قدم معلومات بعد أن ذهب إلى غزة في نيسان/ أبريل 1954، بأن العملية تمّ إعدادها وتنفيذها عبر مسؤولين عسكريين مصريين في القطاع بالاستعانة بالفلسطينيين، وأن الأمر تمّ باجتهادهم ولم يصدر أمر بها من القاهرة.
وليس من الواضح إن كانت السلطات الإسرائيلية أخذت تقرير عميلها مأخذ الجد؛ غير أنها بعد أكثر من سنتين ونصف، وفي أثناء الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة ظهر مؤشر أن العملية نُفّذت من جهة القطاع ومصر.
فحسب جريدة جيروزاليم بوست في 7 كانون الأول/ ديسمبر 1956، وُجدت بطاقات الهوية لبعض من قتلوا من اليهود في العملية؛ في أيدي سكان من رفح. وأصبح من الواضح أن المنفذين جاؤوا من منطقة النفوذ المصري.