تحول لبنان إلى محجر صحي عام يعني أن تتوسّع الكرنتينا بكل ما فيها من مآسي وفساد وتهجير
11 مارس 2020
الكرنتينا، أول محجر صحّي على الأراضي اللبنانية. أسسه إبراهيم باشا، ابن محمد علي والي مصر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
الكرنتينا، “La Quarantaine”، أربعينية. أربعون يوماً، عدد أيام الصوم عند المسيحيين قبل أسبوع الآلام، كفيلة بتطهير الروح والجسد والابتعاد عن أي تواصل أو تماس مع البشر أو الحيوانات أو النبات.
أنشئ في عهد العثمانيين لحجر القادمين عبر البحر قبل دخولهم أرض جبل لبنان وولاية الشام.
فموجات الكوليرا والسلّ كانت قد ضربت أوروبا في تلك الحقبة، وقبلها الطاعون والحمّى الصفراء. ومكافحة هذه الأوبئة ومنع انتشارها من مهام السلطات، ودلالة على قوّتها.
المحجر العام يوشك لبنان كله أن يصير محجراً صحياً عاماً. المدارس والجامعات مقفلة، وموظفو الإدارة العامة أوقفوا العمل لأيام بهدف التعقيم. يبقى أنّ تصدر الدولة قراراً بإقفال المؤسسات الخاصة لأسبوع أو أكثر.
وقد استبقت هذا القرار أساساً بعض الشركات، فأقفلت مكاتبها وطلبت من موظفيها العمل من المنزل. والواقع الاقتصادي التعيس يسمح بكل هذا.
فلن يضيّع اللبنانيون فرصة قطف الذهب عن الأشجار إن عزلوا أنفسهم لبعض الوقت.
بعض الحجر المؤقت تفادياً لفضيحة صحية واستشفائية تُضاف إلى سلسلة الفضائح المستمرة منذ زمن. فوصول الكورونا فضيحة بحدّ ذاته.
وتفشّيه فضيحة أخرى. واستمرار وصوله فضيحة ثالثة.
يمكن للبنانيين أن يعزلوا أنفسهم، لكن ذلك يستوجب أيضاً وقف مسارب كورونا إلى البلد. المدارس مُقفلة، لكن معبر المصنع مفتوح بلا رقابة.
والجامعات مقفلة، لكن المطار أدخل جِمالاً من الفيروسات، ولا يزال.
فكل هذا العزل لن يفيد إن لم تقم الدولة بواجباتها التي تخلّفت عنها.
فدخل الفيروس وانتشر الخوف من تمدّده. عساه يكون أرحم من السلطة ومن فيها.
ثأر الكرنتينا يكاد لبنان أن يصبح كرنتينا.
أو تكاد هذه المنطقة أن تعمّم أهوالها على كل البلد، بشعبه ولاجئيه وسياسييه وكل ما فيه من ضرر
وإنّ صح قرار الحجر العام، ولو تدريجياً، تكون الكرنتينا قد انتقمت من كل ما عاناه سكّانها، على مرّ الزمن.
وثأر الكرنتينا ثأر شعب، لا بل شعوب، من سلطات متعاقبة وحقبات سوداء على المستويات كافة. فيها، عانى اللاجئون الأرمن من مصائب التهجير والقتل.
ومنها، خرج اللاجئون الفلسطينيون بعد قتل ما يزيد عن 1500 منهم في أبشع مجازر الحرب الأهلية.
ومعهم خرج أيضاً، أثر المجزرة، آلاف اللبنانيين النازحين من الأرياف تجاه بيروت للعمل أو العلم.
الكرنتينا علامة من علامات الحرب الأهلية، سبقها القليل ولحق بها الفظيع.
افتتح من خلال المجزرة التهجير الجماعي العام للجماعات الطائفية، فردّ عليها بمجزرة الدامور وتوالت عمليات الانتقام.
لعنة تاريخية وفي الكرنتينا أيضاً قضايا عالقة.
أولها قضية “العرب”، الذين هجرّتهم أحزاب الحرب الأهلية.
“عرب المسلخ”، أو “عرب المدوّر” بالأحرى. وصل هؤلاء بعد افتتاح المحجر أواخر القرن التاسع عشر، وافتتحوا مسلخاً للحوم، وكُنيوا به.
جعلوا من سوق صغير منطقة سكنية جمعت أكثر من 30 ألف نسمة.
واليوم بات ذلك السوق منطقة صناعية أساسية على مدخل العاصمة.
وانضمّت إلى مأساتها مئات عائلات اللاجئين السوريين ابتداءً من عام 2013. بقعة موسومة بالفقر والخراب، ويكفي
القول “كوع الكرنتينا” لإدراك حجم المأساة.
فيجسّد هذا الكوع خلطة سحرية من الروائح العفنة من مطمر النفايات وفوضى مرفأ بيروت وبلبلة شاحناته واستهتار المسلخ الرسمي، وفيضانات المجارير في النهر وخلل المستشفى الحكومي فيها.
يدخل مليارات الدولارات عبر الكرنتينا، لكن تبقى منطقة لكل سوء. يحيط بها الفساد، المالي والبيئي والاجتماعي والسياسي والتاريخي من كل صوب. كأنّ لعنة حلّت عليها ولا تعويذة لفكّها.
فتحوّل المحجر الصحي إلى منطقة موبوءة لا خلاص منها وفيها.
أن يتحوّل كل لبنان إلى محجر صحي عام يعني أن تتوسّع الكرنتينا لا أكثر، بكل ما فيها من مآسي وفساد ولعنات وتهجير.
لم يكن ينقص الكثير لتعمّم أجواء الكرنتينا على كل البلد، ففيه ما يكفي من كل ذلك.
كانت تنقصه الكنية فقط، محجر صحي عام.
ويتوالى رفض الدول استقبال اللبنانيين من خلال تعليق الرحلات منه وإليه.
محجر عام، سجن واسع، موبوء صحياً ومالياً وسياسياً واجتماعياً، لعنته أعقد بكثير من لعنة الفقر في الكرنتينا.