“البقاع الصامت”.. قبل ضجيج الحداثة

تصوير: إيلي بخعازي في تعنايل البقاع (2019)

11 مارس 2020آخر تحديث :
تصوير: إيلي بخعازي في تعنايل البقاع (2019)
تصوير: إيلي بخعازي في تعنايل البقاع (2019)
حسن الساحلي
حسن الساحلي
يركز المعرض الجماعي La Bekaa Silencieuse، الذي ينظم في غاليري “بلاتفورم 39″( يستمر حتى 24 نيسان)، على السهول والمساحات الخالية في البقاع اليوم، بعيداً من المظاهر العمرانية التي تأخذ حيزاً من المشهد العام.
هذا ما يؤكده المعرض منذ البداية بعنوانه: “البقاع الصامت”، والذي يحيل بالتالي إلى كل ما هو بعيد من “الضجيج البصري” للحداثة.
منسقة المعرض، نايلة كتانة، تربطها علاقة قديمة مع البقاع، تسبق الهجمة الباطونية التي بدأت تتسارع في السبعينات، إن كان من خلال والدتها التي كانت تترأس لجنة مهرجانات بعلبك، أو عبر عملها في مشاريع بقاعية عديدة، من بينها تعاونها مع المصوّرة الإثنوغرافية هدى قساطلي في كتاب Terres de Bekaa الذي يوثق ما تبقى من بيوت تنتمي إلى الأسلوب المعماري القديم، والذي كان متناغماً مع طبيعة المنطقة وسياقاتها المناخية والجيولوجية، ومشروع “متحف تربل” الذي عملت عليه مع لجنة التراث في وزارة الثقافة ويقدم نموذجاً عن البيت التراثي بتفاصيله الداخلية والخارجية.

تقول كتانة إنها حاولت، من خلال هذا المعرض، تقديم صورة مرتبطة بماضي البقاع الذي عرفته جيداً وتحنّ إليه، وهي صورة أقرب إلى تلك الموجودة في مخيلة أبناء المدينة عن البقاع “قبل أن يصلوا إليه”، مؤكدة أن المعرض يحاول الإبتعاد من “بقاع الحشيش والعصابات التي تأخذ حيزاً كبيراً من الصورة النمطية المتداولة اليوم عنه”.

اختارت كتانة أربعة نماذج لفنانين يمثلون، بطريقة أو أخرى، تلك الرغبة في النظر بعيداً نن الحاضر العمراني.

وهم، بالإضافة إلى صديقتها، هدى قساطلي: عيسى حلوم، ابن البقاع الذي تحفظ لوحاته التعبيرية شيئاً من براءة الريف الزائلة والرافضة للتجديد.

رفيق شرف، ابن بعلبك وأحد رموز الحداثة الفنية في لبنان الذي شكلت السهول مهرباً له من ضجيج السياسة والأزمات الشخصية. ونديم أصفر، الذي يشارك بمجموعة صور فوتوغرافية تنتقل بين سهول البقاع وتلاله.

ترافقت صور أصفر مع نص يتكلم فيه عن طبيعة البقاع، من وجهة نظر تتراوح بين الخرائطية والجغرافية.

يرى أصفر البقاع (وأصل الكلمة بحسبه: “جمع بقعة التي تعني السطح المميز عن محيطه”) بصفته منطقة وسطية أو عتبة بين أبعاد مختلفة: “بداية الصعود الى الجبل أو بداية نزوله، سوريا التي تقترب أو بيروت التي تدنو، مشهد مغاير أو عودة إلى المألوف، فاصل بين مناطق عسكرية ومناطق هادئة”.

هذه الوسطية تظهر، وفق أصفر، منذ العصور القديمة: “عندما كان البقاع طريقاً للتواصل، إن كان من ناحية الشمال/الجنوب، حين استفاد الناس من انخفاضه المسطح الذي يربط سهل حمص، بالجليل، وبالقدس.. أو من ناحية الشرق/الغرب، حين كان يربط بين الساحل اللبناني، دمشق، وتدمر، خصوصاً عبر محور ضهر البيدر–عنجر–دمشق”.

تخلو صور أصفر نسبياً من العناصر الإنسانية والعمرانية، ويرد ذلك إلى محاولته عدم إظهار الزمن الذي أخذت فيه الصور، إن كان في الحاضر أو الماضي أو المستقبل، ما يتناغم برأيه مع فن الرسم الذي “يشعرك أحياناً بعدم وجود زمن سوى زمن الفنان نفسه”.

يحيلنا هذا إلى نوع من الكونية التي تركز على الثابت والخام في الطبيعة، أكثر من الإنساني المتحول والمؤقت: “في المناطق القاحلة كنت أشعر أن البيوت صغيرة الحجم وضئيلة أمام الجبال والسهول بتنوعاتها اللونية. العناصر الإنسانية ليست سوى شيء زائل امام هذه الماكينة المتجددة والهائلة”.

يرتبط البقاع أيضاً، عند أصفر، بمفهوم “المشهد الطبيعي” Landscape الذي يعتبره “وسيطاً” و”موضوعاً” في آن، وهو في كل حال تقليد عند الفنانين اللبنانيين الذين نظروا إليه كرمز للهوية الوطنية، قبل أن يتم “نزع السحر” عنه تدريجياً، ويأخذ مسارات جديدة مع التصوير الفوتوغرافي الذي لا يزال متأثراً به رغم كل شيء.

ويرى أصفر أن البقاع، بصفته مشهداً، موجود في النظرة الشعبية نحوه أيضاً: “دائماً عندما أمرّ بالمناطق التي تطلّ على البقاع، أرى سيارات تتوقف وتأخذ صوراً له من أعلى”.

طبعاً هذا لا يجعل البقاع شيئاً متسقاً: “بل هو متنوع ومختلف، حيث تشعر في مناطق منه بالراحة والرحابة، بينما تشعر في مناطق أخرى بالتوتر في الأجواء وبأنك غير مرحب بك. حصلت معي حوادث عديدة، تخطيتها الآن، رغم أنها كانت مزعجة في لحظتها، وأعتقد أن هذا ينطبق على لبنان كله وليس فقط على البقاع”.



البقاع من وجهة نظر أبنائه 

لا يمكن رؤية الأعمال المشاركة في المعرض بمعزل عن العلاقة التي تربط أصحابها مع البقاع، والأفكار والإسقاطات التي يحملونها عنه بشكل عام. فنديم أصفر، الغريب نسبياً عن المنطقة، يتعامل مع موضوعه بشكل مختلف عن رفيق شرف، المولود في البقاع، أو عيسى حلوم، الذي عاش كل حياته تقريباً في بلدة العين البقاعية.

يحضر رفيق شرف بثلاث لوحات من السبعينات، وطبعاً نتحدث هنا عن فنان أصبح مدينياً، رغم أصوله الريفية.

فهو ترك بعلبك لاستكمال دراسته في الجامعة اللبنانية خلال مراهقته، قبل أن يحصل على منحة دراسية إلى أوروبا، ويعود لاحقاً إلى بيروت ليصبح فناناً مكرساً وحاضراً بشكل مكثف في حياة المدينة الثقافية.

اعتمدت علاقة شرف مع مسقط رأسه على تحولات حياته والتغيرات في المناخ السياسي العام. رسم شرف في البداية، بطولات مقاومي بعلبك ضد الفرنسيين خلال أول عهده بالرسم، ثم في مرحلة لاحقة طابق بين قصص الشعر الجاهلي و”عنتريات” رجال البلدة وشخصياتها، في فترة تأثر فيها بالأفكار العروبية مع صعود المقاومة الفلسطينية.

مع الوقت، أصبحت علاقته ببعلبك معتمدة على سياقات منعزلة عنها، ما ينطبق على اللوحات التجريدية الموجودة في المعرض التي يبدو أنها أتت كردّ فعل على تراجع الأحلام السياسية، لتظهر التحاماً وجودياً مع الطبيعة، وعودة إلى الذات.

تذهب اللوحات الثلاث إلى درجة متقدمة من التجريد اللوني والشكلي، مع العلم أن الفنان لطالما كان معارضاً للتجريد الذي رآه مؤامرة من الغرب على العالم العربي، تهدف إلى نزع السياسي من الفني.

قبل عام من موته، عاد شرف إلى رسم البقاع بشكل كثيف، لكن هذه المرة كردّ فعل على إصابته بالسرطان. في مقابلة مع أحمد بزون في “السفير” العام 2002، قال: “حين علمتُ بإصابتي بالسرطان، انتقلت شاشة وعيي إلى السنوات العشر الأولى من حياتي. لم يخطر في بالي القبر أو الموت، بل تذكرتُ طفولتي.

اكتشفتُ نفسي وأنا أرسم طفولتي وسهول بعلبك ووديانها وروابيها.

رسمت حوالى ثلاثين لوحة في هذا الموضوع، إلا أن مشاكل العلاج ما لبثت أن أوقفتني”.

أما الفنان التشكيلي عيسى حلوم، الذي يشارك بثلاث لوحات أيضاً، فقد عاش معظم سنوات حياته في قريته العين (البقاع الشمالي)، لكنه تابع تعليمه الجامعي في بيروت، وينظم فيها معارض بشكل دائم.

تمثل أعمال الفنان مشاهد مختلفة من حياة القرية، وتحمل إلى حد ما عناصر إيكزوتيكية موجهة إلى الذات، حيث تبدو أقرب إلى تنميطات المدينة عن الريف. لا تظهر البيئة العمرانية في لوحات حلوم، وتبدو أيضاً “لا زمنية”، وغير راغبة في رؤية “الحداثة العمرانية” بتشوهاتها السلبية أو عناصرها الإيجابية، رغم اكتساح هذه التشوهات، البقاع، خلال العقود الأخيرة.

يمكن تفسير هذا التوجه، بانتماء حلوم الى نموذج الفنان الذي يحاول إكساب ممارسته طابعاً روحياً. مثلاً، في إحدى المقابلات، وردّاً على سؤال عن السياق الذي يرسم فيه، يقول أنه لا يرسم سوى في الطبيعة، وفقط عندما يأتيه الإلهام! كما أنه يردد بشكل دائم أنه يحاول نقل الجو الداخلي لعوالمه بطريقة تعبيرية، لذلك ينتقي مشاهد بعيدة من الحياة الحديثة، مفضلاً التي تمتلك “قوة روحية”، مثل الكنائس أو الأمكنة التي تفيض بالضوء والألوان الخضراء والزرقاء بتدرجاتها المختلفة.

من ناحية أخرى، ورغم أن اللوحات المعروضة من الناحية التقنية، تمتلك مستوىً جيداً، لكنها تخلو من الأصالة، وتبدو نسخاً عن أعمال الفنان الفرنسي–الروسي، نيكولاس دي ستايل، والتي رسمها منتصف القرن العشرين، إن كان باستعمالها أسلوب الإمباستو بالتلوين الخشن، والنافر، أو بتشكيلها المشهد من بلوكات وكتل لونية متجاورة وذات أشكال وحدود واضحة، ما يضيع فرصة رؤية البقاع بطريقة جديدة تمثل فعلياً الحاضر الذي يعيش فيه الفنان، عوضاً عن استعارة وجهات نظر لا تمت للحاضر بصلة.

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع “بيروت نيوز” بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

المصدر المدن