اجتماع الإنتهازية بالجشع واللامسؤولية، يختصرها مثل قروي لبناني، يصف صاحب هذه الصفات بـ”آكل أكفان الموتى”. لبنان موبوء بزمر حاكمة ومستقوية من هذا الصنف تاريخياً.
تأخذ هذه الزمر شكل الجماعات الحزبية أو الجماعات السياسية الموزعة جغرافياً ومناطقياً على أسس طائفية ومذهبية.
تجيد هذه الزمر إناطة السياسة بالشطّار.
وهؤلاء وفق التصنيفات اللبنانية، هم الإنتهازيون الذين يجيدون اللعب على حبال الأزمات والكوارث، لتلميع أنفسهم وصورهم. يستثمرون بفقر اللبنانيين وأمراضهم، فيسارعون إلى التظاهر بتقديم المساعدات العينية لهم، عبر تشكيل لجان حزبية ومناطقية تفي بغرض ازدهار شعبيتهم أو برهان سلطتهم و”أفضالهم” على الأتباع، بدلاً من العمل وفق منطق المؤسسات، بين دولة ومواطنيها.
أحزاب الطوائف جمعيات خيرية!
ما يقود هؤلاء طموح يتّسم بشهوتهم السلطوية، وأناهم المتضخمة، التي تفرض عليهم أن يظهروا متفرّدين بقراراتهم، فرادة انفصالهم عن الواقع.
فتتحكم بهم شهواتهم السياسية فقط، التي يعملون على إشباعها بموجات متتالية من التعمية للناس، وإغراقهم في حالة التبعية، التي لا تعزز غير الانقسام بين أبناء المجتمع الواحد.
يقوم هؤلاء على منطق مخادعة اللبنانيين، بممارسة الدجل السياسي لانتهاز الفرص والأحداث، بهدف تعزيز وجاهاتهم السياسية والاجتماعية.
القوى السياسية على اختلافاتها، التي تلقت ضربة قاصمة في ثورة 17 تشرين، أدت إلى تعرية أقنعتها، تعود حالياً من باب أزمة وباء كورونا لاستعادة دورها وتلميع صورتها على الأسس المذهبية والمناطقية ذاتها.
إذ تتبارز هذ القوى السياسية وتتسابق فيما بينها، على تشكيل لجان حزبية ومناطقية وشعبية، لتبدو وكأنها “جمعيات خيرية” تعمل على توفير المساعدات للمرضى أو للمتضررين اقتصادياً من هذه الأزمة، وفق لعبة سوس “الملل المتفرقة”.
فتأخذ زعامة كل الملة على عاتقها، دور الراعي والحامي والمنقذ.. وطبعاً، على حساب دور الدولة، الواجب تعزيزه لتقدّم مؤسساتها هي وحدها ما يحتاج إليه المواطنون.
الصورة الخادعة والمضمون الرديء
الصورة التي أراد وزراء حكومة حسان دياب برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون للبنانيين أن يروها، وهم يضعون الكمامات على وجوههم والقفازات في أيديهم، يُراد لها أن تروج لمحاسنهم ومساواتهم لأنفسهم مع كل شرائح المجتمع اللبناني، المطلوب منه اتخاذ أقصى درجات الوقاية والإلتزام بحالة التعبئة العامة التي أقرتها الحكومة.
وعلى قاعدة من ساواك بنفسه ما ظلمك. لكن الصورة الموحدة للوزراء والرؤساء كانت مختلفة عن مضمون الجلسة ومداولاتها. فمع الإنسجام “الشكلي” الذي عكسته الصورة، كان اللا انسجام في المواقف ومقاربة الملفات. ففي تقدير مخاطر وباء كورونا كان الخلاف بين أركان الحكومة على “نقطة الإنتشار المناطقي لهذا الوباء”.
هنا تجدد الصراع المللي المذهبي والطائفي. المسلمون اعتبروا أن أكثر المناطق المصابة بالوباء هي مناطق مسيحية. فطالب وزير الصحة بعزل منطقتي كسروان وجبيل، ليعترض المسيحيون ويرفعوا ما يشابه ثارات الحسين وهيهات من الذلة.
وكان الرد أن طالب وزراء آخرون بعزل الضاحية الجنوبية لما تحويه من حالات كثيرة بسبب القادمين من إيران. فرفض ممثلو الثنائي الشيعي، ليقترح أحدهم استخدام مصطلح قضاء بعبدا، الأمر الذي عاد ورفضه الفريق المسيحي مجدداً، لأن ذلك سيوحي بأن المنطقة المقصودة مسيحية.
فيدرالية كورونا
وسط هذا السجال المتهافت، كانت حملات كثيرة تشير إلى أن عكّار، وهي المنطقة السنية الأكبر في لبنان، هي خزان الوباء… تماماً كما كانت الحملة من قبل على الضاحية الجنوبية ومناطق الشيعة بوصفها ناقلة الفيروس من إيران. ربما كان هؤلاء ينتظرون تفشي الوباء في منطقة سنية، لتبدأ إجراءات العزل المناطقي منها.
الصراع على “هوية” الوباء ومنطقة انتشاره، يقابله تصارع بين القوى على من يقدّم أوفر الخدمات الحزبية في مناطقه ومجتمعه.
هكذا، استحالت أزمة الكورونا كأزمة الكهرباء، كل طائفة تريد معملها.
وهكذا يتكرس المرض المستجد مرضاً لبنانياً مزمناً، يرسم الحدود ويرفع السواتر بين المناطق والطوائف، وفق ما يمكن تسميته “فدرالية كورونا”.
هذه الحكومة التي تمثل فريقاً واحداً، ويفترض أن تكون منسجمة مع بعضها البعض ولا تضم متناقضات سياسية، يمكن معها وإزاء “العمالة” إيجاد نوع من التوافق والتغاضي عن العنفوان لإحدى القوى السياسية مثلاً.
أما إزاء وباء يستدعي عزلاً وحجراً، فلا تجد توافقاً أو انسجاماً أو إجماعاً، أو حتى تمرير قرار من دون اعتراض فاعل (فيتو) من طرف آخر. ربما يحتاج هؤلاء إلى رسالة أو إتصال من السفارة الأميركية لإعلان العزل.
كل كلامهم لا يتعلق بلبنان كدولة.
هو ينطلق من حسابات مناطقية و”فدرالية” طائفية أو حزبية – طائفية.
والتحالف فيما بين هذه القوى لا يقوم على الوحدة بل على ترتيب التقسيم والفدرلة.
فتتحكم الذهنية الفئوية الطائفية، بدلاً من ذهنية الشعب الواحد.
ويوماً بعد آخر، تثبت هذه الحكومة وهذا العهد وهذه السلطة، أنهم ليسوا على قدر المسؤولية المناطة بهم، وسط تمنّعهم عن اتخاذ أي قرار يعبّر عن لبنان كدولة واحدة تحكم شعباً واحداً.