المقاومة ضد الاحتلال ظاهرة عرفتها أوطان بعيدة وقريبة، والجمع بين القتال في الميدان وإدارة مفاوضات مع العدو المحتل، مباشرة أو بالواسطة، كان من السياسات التي أقدمت عليها الحركات الثورية، في فيتنام مثلاً، وفي غيرها من البلدان.
من يفاوض؟
في النماذج العالمية، كان من يدير القتال الوطني هو ذاته من يدير المفاوضات الشاملة، ومسؤولية الكفاح المسلح كانت مناطة بالنسق السياسي الذي يبني حساباته بناءً على توازنات الميدان، وبناءً على المصلحة الوطنية العليا، مستنداً في ذلك إلى قواه الذاتية، وإلى دعم الحلفاء والأصدقاء العالميين، وإلى ضغط الرأي العام الشعبي في شوارع البلد العدو، وإلى سائر الأصوات الداعمة، في الشوارع وفي المؤسسات العالمية والدولية. تلك كانت الحال مع الثورات قبل إنجاز عمليات التحرير وخروج القوات المحتلة.
وكانت الحال ذاتها مع بلدان احتلت أجزاء منها فأدار الشطر الحر الصراع ورعاه. النماذج تلك كان لها إسم الثورة الصينية، والثورة الفيتنامية، والثورة الجزائرية.. ولها إسم عندنا هو إسم الثورة الفلسطينية، وقد أضاف لبنان إسم المقاومة الوطنية، التي انطلقت كجبهة تحرير وتوحيد وديموقراطية، ثم انتهت “إسلامية”، وما لبثت أن تحولت بعد التحرير إلى جزء من السلطة السياسية، ومن دون التفات إلى مسألتي الوحدة الوطنية والديموقراطية.
وإذ تبدو عملية التفاوض مسألة وطنية طبيعية عندما تديرها أنساقها السياسية المسؤولة عن بلادها، فإن العملية ذاتها تصير غير طبيعية عندما ينوب جزء من الوطن عن سائر أجزائه، محتكراً النطق باسمها على غير مشورة معها، ومقدماً أسبابه الجزئية على سائر الأسباب الوطنية الشاملة، وجاعلاً مصلحته الفئوية مصلحةً جامعةً، مستعملاً قياساته ومرجعياته وتقديراته وحساباته.. من دون اعتبار لما يماثل كل ذلك لدى الآخرين.. وتبلغ مسألة التفاوض انفصامها الخطير، عندما يكون أمر مقاومة الداخل ملحقاً بحسابات خارج، مقاوم أو غير مقاوم، بعيداً من إدارة وإرادة السلطات الوطنية المسؤولة.
النموذج الأخير عرفه ويعرفه لبنان، ولعله النموذج المفرد عالمياً، فكما سبق القول كان لكل بلد مكافح من أجل حريته واستقلاله، الدعم والمؤازرة من حلفاء وأصدقاء، من دون وضع اليد على قراراته، ومن دون إخضاع لإرادته، ومن دون إسقاط مصالحه الوطنية من الحسبان.
الوضوح في التفاوض
تطرح على طاولة السياسة خيارات مفتوحة. المفاضلة بين خيارٍ وآخر له شروطه الوطنية. أول الشروط الوضوح في عرض وشرح المطروح، ثم توفر كل ما من شأنه أن يحمي وعي وحرية الاختيار.
المبادرة الواضحة تحتمل قبولها ودعمها، مثلما تحتمل رفضها والعمل على إفشالها.
الأمران مشروعان ومبرران عندما تكون مرجعية الطرح السلطة التي يفترض أنها حازت على ثقة الأغلبية الشعبية. ما تقدم يعني أن العلاقة الواضحة بين السلطة وشعبها، أو بين الثورة ومسقط رأسها الشعبي، تنطوي على درجات من الديموقراطية والشفافية والمشاركة في المسؤولية، مما يستبعد أحابيل السياسة ومناوراتها، ومما لا يختزل الإرادة الشعبية بإقصائها، ويسقط التفويض الشعبي بتزويره أو بالالتفاف عليه.
وبناءً عليه، كيف هي الحال اللبنانية في سلطة التعمية، وفي كواليس مقاومة اللاوضوح؟
لعبة المساومة
خرج عامر فاخوري من سجنه، وابتهج الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بنجاح سياسته، وأعلن فخره ببلاده التي لا تترك أبنائها، وخص بالشكر الحكومة اللبنانية التي جعلت إنجازه ممكناً وناجحاً. لقد لخص الرئيس ترامب بإعلانه سيرة مساومة تفاوضية حصلت من لحظة توقيف عامر فاخوري، وحتى لحظة وصوله إلى مقر السفارة الأميركية في لبنان.
إذن، كانت السردية حافلة بالأحداث، وكان خلف كل فعل فاعل، وكان لكل “معركة” بطل، أما اقتصار إعلان الفوز على الجانب الأميركي فله ضروراته، والاكتفاء بذكر الجانب اللبناني في صيغة الجمع فله مبرراته، وقد يكون تجهيل الفاعل الفردي اللبناني، واحداً من شروط لعبة المساومة التي طلبها “البطل” اللبناني المجهول المعلوم من قبل الراسخين في علم المساومات اللبنانية.
وبناءً عليه، وإذا كانت المساومة على إطلاق الفاخوري سياسة لها ما يستدعي اعتمادها، فلماذا الخشية من طرح الدواعي والأسباب؟ شجاعة الوضوح والشرح في هذا المجال، لا تستطيعها مقاومة اعتنقت سياسة شعارية جامدة، فباتت هي وجمهورها ومناصروها في أسرها، ولا يستطيعها حكم، أو طرف من هذا الحكم، التحق بهذه الشعارية الجامدة، التي لا تنتسب إلى تاريخه، ولا ينتسب هو إلى مضمونها الشعبي الأصلي، وله شعبويته الخاصة التي لا تشبه باقي الشعبويات النضالية.. إلى أين من هنا؟ الجواب، إلى القول قولاً واضحاً، إن المعنيين وضعوا في مواجهة خيارات صعبة وخطيرة، كان الأقل منها خطورة الإقدام على خطوة إطلاق سراح عامر فاخوري.
هذا الإعلان يقع في باب المفهوم، ويمكن ربطه بمقولة الضرورات التي تبيح المحظورات، ويفتح باب النقاش السياسي بديلا من سياسة التراشق بالتهم وبالعمالة، في بلد العمالة فيه وجهة نظر، والأطراف فيه تقيم علاقات مع أكثر من خارج، مما يقع تحت طائلة المساءلة القانونية.
وبناءً عليه ببساطة ووضوح، على المعنيين في المقاومة والحكم أن يكتفوا بالقول: لقد أجبرنا على”تجرع السم”، لأنه كان الأقل ضرراً من بين كل ما هو معروض علينا من سموم قاتلة.
مأزق المقاومة
من غير المجدي الحديث عن مأزق الحكم، فهذا الأخير ليس منعقدا حول إجماعات وطنية ليتسنى القول إن خروجه عليها قد أدخله في مأزق وطني عام.
لذلك، فالمأزق الحالي الذي نجم عن نتائج المساومة، هو مأزق المقاومة. أبرز عناوين هذا المأزق، هو عدم التسليم بروايتها عن سير ونتائج قضية الفاخوري، مهما سيق على ألسنة مسؤولي المقاومة.
لقد ساهمت القضية المذكورة في زيادة ضيق مساحة الثقة بقول المقاومة وفعلها، وتعاظم التوجس من سياستها وأهدافها منذ ما بعد التحرير عام 2000، وانفضَّ من حولها جمهور واسع في الداخل اللبناني وفي العالمين العربي والإسلامي، بعد أن صارت المقاومة ” تشكيلاً” عسكرياً متدخلاً في الحروب الخارجية.
مع فقدان الثقة، ستخاطب المقاومة جمهورها فقط، والجمهور هو البيئة الوحيدة التي تحتاج إلى تصديق إعلان الصمود عند ثوابت مقاومته الأولى. لن يأخذ الجمهور على محمل التصديق حقيقة تزحزح المقاومة عن ثوابتها، وهو بحاجة إلى عملية إعداد طويلة ليكون مهيئاً لقبول فكرة “نجاسة” السياسة التي يراها بعيدةً عن “طهارة” المقاومة.
لقد تعود الجمهور المقاوم على زج “مقدس” ما في كل عملية مدنسة، لكن عملية عامر فاخوري لن تجد ظلاً يستر كل ما يرشح منها من دنس.
دعوة لآخرين
أما وقد بات الفاخوري طليقاً، فإنه حري بكل الذين نالهم من ظلمه وبطشه نصيب، أن يوجهوا سهام معارضتهم إلى مرمى السلطة الحاكمة والمتحكمة، التي تضم في صفوف مناصريها أكثر من فاخوري سابق، والتي تتولى “فاخورتها” تصنيع أنماط جديدة، منقحة ومعدلة، من فاخوري هنا وهناك، مما لا يفيد معه اقتصار النقد على فاخوري سابق، ذلك أن من وهب الحرية للسابق هذا، هم كل منتجي ومروجي ورعاة “الفاخورية” الجديدة.