ما كان مقدراً للأصوات التي هدرت في الشارع أن تهدأ، إلا بقدرة قادر قمعي داخلي ما كان متوفراً، وما كان متاحاً من قدرة في يد النظام وسلطته، كان عاجزاً عن إيصال فعل القمع حتى نهاياته الزجرية المطلوبة، وهكذا أقفلت دوامة الأيام اللبنانية على نسقين، شعبي ورسمي، لا يملك أيٍّ منهما الوزن اللازم الكفيل بترجيح كفته في ميدان المواجهة المفتوحة الطويلة.. من خارج هذا المشهد المأزقي، حلَّ وباء كورونا كمتدخل “خارجي”، فحسم الوجود الصاخب في الشارع من المعادلة، وقدم نجدة “ماورائية” للنظام الذي لم يتخلف عن استرداد زمام المبادرة، وفق ظروف “وبائية” قاهرة، ومن خلف ستارة التهديد الوجودي الذي أحاق بكل اللبنانيين.
إذن، ما كان غير ممكن من سلوك سياسي واجتماعي قبل الوباء الزاحف، صار ممكناً لدى النظام وحكومته، وما كان مأمولاً ومطلوباً من قبل قوى الشارع، بات مقصياً إقصاءً ملموساً، كحركة مادية يومية في الميدان، وكبنود مطروحة على جدول أعمال الحكومة “الإنقاذية”.
هذا المشهد الجديد أعاد صياغة المشهد اليومي الواقعي، من حيث ثقل الحضور لأطيافه وقواه، ومن حيث تبدل مواقع الفاعلين والمؤثرين فيه، ومن حيث تعيين مرجعيته التي تتعهد شؤون إدارته، من دون اعتراض مؤثر على أساسياتها، وبتسليم غالب لها، بأن الكلمة الفصل في كل الشؤون المفصلية الهامة.. تعود إليها.
كانت الحصيلة “التوكيلية” هذه، جواز المرور العام للسلطة القائمة، لتستعيد سيرتها السياسية الأولى، مغلفة بغلاف مهمة حماية اللبنانيين التي لا تتقدم عليها مهمة أخرى، ومتضمنة الأساسي من “أخلاقيات” المحاصة الطائفية والمذهبية، هذه التي كانت موضع تنديد من قبل المعترضين عليها، ثم تخففت من رقابة الغضب الشعبي، وباتت بعيدةً من متناول صرخاته.
رزمة “أخلاقيات” رسمية
يحمل النظام اللبناني صفات كثيرة، وله سمات متعددة، لكن ذكر ما يتعلق بما هو عليه، وبما يدعيه لنفسه، يرد دائماً سجين جدران مزدوجين، أي بما يلزم من انتباه إلى عدم مطابقة الوصف للموصوف، ذلك أن النظام في لبنان قد يحمل من كل وصف عام جملةً خاصة، تكون له صفةً ناقصة أو صفةً تامة. استطراداً، وعلى خط الانتباه، اتخذ النظام حيال الأزمة الوبائية الراهنة، صفة “أبوية”، وهذه الأخيرة بدت متسقة مع عنوان “أبو الكل” الذي يقصد به رئيس الجمهورية.
الأبوية الثقيلة الوطأة في التقليد الاجتماعي العائلي ضمن بيئتها الضيقة، هي ثقيلة الوطأة أيضا عندما تكون في الإطار الرسمي الوطني العام.
يطلب الأب العائلي الاحترام وعدم الاعتراض والبرِّ به من قبل أبنائه، والتزام الكل العائلي بواجبات الوفاء له.. ولا يكون طلبه ذا صوت مسموع، فهذا الصوت موجود داخل كل فرد من أفراد العائلة، به يحدث ذاته، ولهمسه الخافت تنصت كل ذات. هذه الواجبات الطوعية، أخلاقاً واختياراً، حيال الأب الفرد، يدعو إليها “النظام” الأب، بقوانين ومراسيم وإجراءات يلتزمها المواطن الفرد بأخلاق التعاقد الاجتماعي المسؤول، ويفرضها قسراً أو قهراً أو تعسفاً أو اعتباطاً.
النظام الأب غير المسائل، على “عائلته” الكبرى، أو رعاياه الذين لا تربطه بهم رابطة عقد اجتماعي واضح ومفهوم.
مشاهد كثيرة، وبيانات متوالية، تحمل بصمة الأبوية النظامية.. من ذلك: “الحنو والعطف على المنتشرين” والمسارعة إلى تأمين لم شملهم بما تجود به “اليمين والشمال”، دس طلب الامتنان على ألسنة الإعلاميين والمستصرحين، والجهر بالثناء على ما يقوم به الأب المسؤول.. فرض إجراءات قبل نضج أسباب فرضها، والتدرج في إصدار تعليمات وترتيبات متأخرة عن مواقيت ضرورة إصدارها، حسب ما رأى “الأب” ذلك مناسباً، لأنه الأعلم بما يجب وبما لا يجب، في زمن الشدة ، وفي أوان الرخاء.
الممارسة الأبوية التي جرت الإشارة إليها، ليست من بنات بنية “نظام الأب” اللبناني، بل هي من لزوميات فرض حساباته التي تدور في خلده هو، ولا ترد على بال الكثرة من الأبناء.
ما يقيم في عمق النظام العميق الموروث، صراع “كينونات” ناهبة، وفي هذا الصراع كل الأسلحة مشروعة، وقد عاش اللبنانيون فصولاً صراعية كان من أسلحة قواها انقلاب البنية على البنية، وتقديم التنازل للخارج بدلا ًمن قبول تسوية تنازلات متبادلة في الداخل، والرضوخ لوصاية سلطة بعيدة، والتعالي وممارسة الإقصاء ضد الكتلة الشعبية الواسعة.
إذن، عند النظر إلى أداء النظام الأب الحالي، تقتضي الواقعية النطق بوصف إيجابي موضعي، حيث يكون القرار مناسباً، والممارسة مجدية، والحصيلة إيجابية، مثلما تتطلب الإشارة إلى نقاط الخلل بغية تفاديها أو الحد من أضرارها. لكن الاعتراف بالواقع المجتزأ لأداء النظام الأب، لا يلغي رفض الواقع العام لهذا النظام، الذي لا استقامة لشؤون الوطن الذي يديره، إلا بتجاوز إرثه التاريخي، الإيديولوجي والسياسي والاقتصادي… وما سوى ذلك على كل صعيد.
ورزمة ” أخلاق” اعتراضية
تكاد أصوات المعترضين على النظام الأب تشبه احتجاجات الأبناء ضمن العائلة الواحدة، مع اختلاف جوهري في عنوان الاختلاف، وتشابه واسع في البنود التي تلي العنوان.
جوهرياً، لا يريد أي من أفراد العائلة قتل الأب، لكن في السياسة يسعى المعترضون إلى قتل أبيهم الرسمي، من خلال عملية تغيير مقومات كينونته التي تكفل ديمومته. هذا على صعيد عام مسعى “أخلاقي” تأسيسي يروم بلوغ مستويات أخلاقية مجتمعية بديلة، لكن قوى هذا المسعى لم تراكم “منظومة” أخلاقها التغييرية في أيام احتشادها، ولم تجترح مسعى متكيفا في مواكبة الأزمة الوبائية، يترجم مسؤولية المعترضين عن صحة وسلامة وحياة الشطر الأوسع من القاعدة الاجتماعية، أي الكتلة الحاشدة التي قالوا إنهم ينطقون باسم مصالحها الحالية والمستقبلية.
لقد انسحب الصوت المعترض انسحاباً كيفياً غير منظم، وانكفأ إلى ما بعد خطوطه الدفاعية، ولم يقاتل قتالاً تراجعياً، وها هو ما زال يطلق من داخل “نفقه” الإختياري كلاماً لا يضيف إلى اقتراحات المعالجة إضافةً حقيقية، لأنه، أي الكلام، عارٍ من القوى المتحركة الحية التي تكسوه “زخماً ونفوذاً”.
والحال كما بات معلوماً، اقترب وضع المعترضين من فحوى منطوق المثل السائر: “القافلة تسير…”، بحيث تضيع أصوات اللاهثين خلف القافلة في مدى الأثير.
لقد بات واجباً، وعلى خلفية أخلاق المعترضين، الاعتراف بالتقصير، وإعلان ضيق ذات اليد، والقول بوضوح: ليس لدى المعترضين ما يقدمونه حالياً غير الكلام.
بناءً عليه، ليكن التصريح متناسباً مع “طول بساط المصرح”، وليس مع طول لسانه، وليكن خلق المساهمة راهناً، منسجماً مع قول الشاعر الذي يوصي بحسن النطق طالما أن الناطق بلا خيل ولا مال.. هذا الذي تقدم، يسمح لصاحبه، ويلقي عليه مسؤولية النظرة السياسية الواقعية، إلى ما يقوم به هو، وإلى ما يقدم عليه خصمه السياسي النظامي.
العدمية ليست أخلاقية معارضة، وكذلك الإحتفالية، ومخاصمة الآخر، كل آخر، لا تنفي واقع عمله المفيد، إذا كان مفيداً، ولا تنحي جانباً التحليل الإشكالي البنيوي الذي أوجب معارضة هذا الآخر.
وبما أن الجديد يولد دائما تحت الشمس، فإن من واجب المعترضين ملاحظة هذا الجديد، ومواكبة تطوره ونموه، أو ثباته وضموره فيباسه. هذه شفافية وقدرة على تبادل رؤية الآخر والذات في مرآتين متبادلتين، فالسياسات متبدلة في مجرى الأيام، وكل منظومة أخلاقية أو سياسية.. “لا تسبح في ذات النهر مرتين”.