الحرب الأهلية: نخب لم نشربه بعد

لا يحمل كيساً من القش بل سلاحاً، لا يخطف أطفالاً بل أرواحاً (الصورة: 7 أيار 2008،

14 أبريل 2020
الحرب الأهلية: نخب لم نشربه بعد
نادر فوز  صحافي لبناني
نادر فوز صحافي لبناني
افتقد درج متحف بيروت الوطني هذا العام إلى تجمّع العمامات والقلنسوات. من بين إيجابيات نادرة فرضها علينا فيروس كورونا، أنه جنّبنا ذكرى اجتماع القيادات الروحية لإحياء ذكرى الحرب الأهلية. عفانا من صورة متكرّرة تجمع صليباً وقرآناً أيضاً، تسبيحاً مشتركاً وصلوات متداخلة، لحماية لبنان وتجنبيه نار الحرب والانقسام من جديد.
كل هذا والغفران لم يحصل بعد. فمرتكبو جرائم الحرب، مستمرون بارتكاب جرائم يومية لا تقلّ شأناً عن القتل.
حلّت ذكرى 13 نيسان، وكل في بيته.
ومن أراد استذكار ضحاياه أضاء شمعة في منزله، أو قرأ نصاً مقدساً. في حين أنّ عبدة الكاميرات وفولكلور العيش المشترك، من أحزاب وسياسيين، لا بد أنهم شحّموا بنادقهم.

إن لم يكن للقتل، فللابتزاز. وإن لم يكن للابتزاز، فللتأكيد على أنّ محاور الحرب الأهلية مفتوحة، وهي نفسها، وكذلك قادتها.

نفاق المصالحة
فولكلور العيش المشترك لم يمحو كل ملفات الحرب المكدّسة في صناديق أو صور أو حتى ذكريات.

لن يقدر على ذلك طالما أنّ المصالحتين الوحيدتين اللتان تمّتا، ناقصتان.
ليستا إلا لقاءين بين زعيمي محورين، خرج كل من متراسه. تصافحوا، تصوّروا وشربوا نخباً لدقائق. ثم عادوا كل إلى خندقه، حتى لو انتهت الحرب والمعارك.
بقوا في تلك الخنادق وزيّنوها بأعلام المصالحة.
ستروا فيها الطائفية ولذة القتل والسحل، ومنها أداروا عملية نهب البلاد بعد أن تشاركوا في تقسيمها.

مشهد رديء يحاول تقليد مقاطع من فيلم “ميلاد مجيد”، على جبهة بلوغستريت في الحرب العالمية الأولى. لكن نسخته المحلية بغيضة، تفيض منها رائحة المواقف الخبيثة بنفاقها.

نسخنا الرديئة
ملف الحرب الأهلية لن يطوى طالما أنّ مهجّراً واحداً لم يعد إلى أرضه. فليس غريباً أنّ جيلنا الحالي ورث، بكل بلاهة، تعبيري “هنا وهناك”. نذكر القليل من ساعات الانتظار على المعابر، والشراشف البيضاء المعلقّة في الشوارع لحجب أنظار القنّاصة. والمدافع في ذاكراتنا، تُسقط حممها على الحيّ، وكل الأحياء. ونحن في الملاجئ نئنّ. أما القناع الأسود على الحواجز فقصّة أخرى. هذا “أبو كيس”، “البعبع”، لكن بنسخته اللبنانية أيضاً. لا يحمل كيساً من القش بل سلاحاً.

لا يخطف أطفالاً، بل أرواحاً.
يخطف ما يحلو له من أرواح. أما الكيس فلجثة الضحية، يمكن تركها بداخله مشوّهةً ومنهوشةً على عتبة منزل أهلها تعبيراً عن الإبداع بالتشفّي.
لا نعرف لماذا نُسَخنا المحلية بهذه الفظاعة دائماً. كأنه مكتوب علينا أن نعيش لعنات مضاعفة. هنا لا ديكتاتورية بل ديكتاتوريات.

لا جيش بل جيوش. لا طائفية، بل تحالف طوائف. لا عدو، بل جملة أعداء. حتى الفاشية هنا مبدعة في الكره.

شواهد اللانهاية
لن تطوى حربنا طالما أنّ وداد حلواني، وعشرات الآباء والأمهات والأبناء، يطالبون بالكشف عن مصائر الضحايا المخفيين. قضايا هؤلاء عالقة.

لا شواهد لقبور الضحايا، لأنّ لا جثامين لها. وإن وُجِدَت، هذه الشواهد، فلا تحمل تواريخ التتّمة. مرسوم عليها شعار اللانهاية. فتكرّس لانهاية آلامنا، ولانهاية حربنا.
فولكلور المصالحة، باب هزّاز، يفصل يومياتنا عن أيام الخنادق والقنص والذبح على الهوية. يهزّ موقف سياسي الباب، فيفتح معه ذاكرة الحرب بسهولة فائقة.
تهتزّ درفتا الباب على صوت أي موقف طائفي نتنّ، وما أكثرها. تعيدنا إلى الخندق رغماً عنا، فرحنا بالخروج منه نحن جيل الملاجئ الذين لا دخل لنا بكل تلك الدماء، ولو أنها حق علينا في كل الأحوال.

لن تنتهي الحرب طالما أنّ بابها مهزوز. متروك على هذه الحال عن قصد. زعماء الحرب والسلم لم يوصدوه، لإنهم إن فعلوا بقوا خلفه. لكانوا علقوا في الجانب الآخر، ونحن الضحايا هنا نخرج من الملاجئ من دون خوف ونهلّل لبقائهم في الجحيم. لكنّا شربنا نخب ذلك، إلى اللانهاية.

المصدر المدن