لم يبدد النظام الطائفي اللبناني وقته، فبادر سريعاً إلى توظيف الفترة الكورونية ليشن هجومه المضاد على كل التطورات “التشرينية” السابقة، وعلى ما كان قد بدأ التنامي من ضغط حركة الشارع، وما كان قد بدأ يأخذ طريقه بتدرج، نحو خلاصات كابحة لاندفاعة مجمل أداء سلطة المحاصة الطائفية والمذهبية. تحرك النظام اتخذ شكل الهجوم المضاد السريع، فاختار الميدان المالي والنقدي والمصرفي، ليكون مسرحاً لمعركته.
راية قيادة الهجوم سلمت لرئيس المجلس النيابي، وفي الأمر “حكمة” نظامية، لجهة اختيار العنوان المالي الذي يتيح المزايدة والمناقصة، والمناورة المكشوفة الذكية وحياكة الألاعيب الخفية، ورفع سُبابة التهديد دفاعاً عن لقمة الناس ومدخراتهم، وقبض الكف على الجنى السياسي والمادي، الذي توفره معارك “الشعبوية”، من دون انتباه الناس إياهم، إلى أن القتال يدور ضدهم، وأنهم في حومة الصراع الطائفي، هم دائماً المقتولون قتلاً مزدوجاً، بسلاح قائد “عواطفهم” أولاً، وبسلاح ائتلاف قادة العواطف المختلفة ثانياً… وعلى الدوام.
رئيس المجلس سلاحاً
العنوان المالي الدقيق والحساس، سلاح سياسي يستخدم في حالتي الهجوم والدفاع، ومن يستخدمه دفاعاً تتوفر له أرباح سياسية إضافية ابتدائية، لحظة ربط دفاعه بعبارات وطنية عامة، سواء كان المقصود شرائح اجتماعية محددة، أو كان المستهدف بالقول مقدرات الدولة الوطنية والحرص عليها.
السلاح ذاته يعود على مستخدمه “بريع مختلط” في حالة الهجوم، عندما يكون الهدف إضعاف الخصم السياسي المحلي، أو الانسجام مع الداعم “الحليف” الخارجي، أو الدمج بين البعدين الوطني والمافوق وطني، لضمان إيصال الهجوم إلى نقطة الفوز بقرار إدارة التوجهات الأساسية للدولة الوطنية، والانفراد بعبارة “الأمر لي” في عملية اتخاذ القرارات المصيرية، وفي عملية تنفيذها.
استخدام هذا السلاح من قبل من يجيد توظيفه، يجعله سلاحاً “مضاعفاً”، في الحشد من أجل تنفيذ الوظيفة، وفي ضمان نجاح التنفيذ في بنوده الأساسية الحاسمة. على معنى المزاوجة بين عناصر القدرة كسلاح في المهمة، وبين صانع القدرة من العناصر المتوفرة كسلاح أساس، يكون الصانع أو القائد، سلاحاً ثانياً في الترتيب، لكنه يصير السلاح الأول الأساسي الذي يحول ما لديه فردياً، وما وضع في إمرته جمعياً، إلى وحدة قدرة مجتمعة كفيلة بتحقيق ما رسم لها المخطط من أهداف. على خط متسق مع ما ورد، يصبح “دولة رئيس السلطة الثانية” في هرمية المؤسسات الرسمية اللبنانية، سلاحاً في الهجوم المضاد الذي يشنه النظام الطائفي على جبهتين، جبهة الشارع الذي رفع التحدي في وجه التشكيلة الحاكمة والمتحكمة، وجبهة “أهل البيت” الذين ضعفوا وأضعفوا، فبات متاحاً اقتطاع أجزاء من حصصهم التي باتت غير متناسبة مع ميزان القوى الذي رجحت كفته في صالح الثنائية الشيعية السياسية كطرف مستفيد أساسي، وفي صالح الملاحق الموزعة على أكثر من طائفة ومذهب، كمستفيدين “بعدوى” النعمة التي يوفرها صاحب جملة “الأمر لي” الطائفي الجديد.
يملك “دولة” نبيه بري أن يقود ما فوضه الآخرون من أمر، فهو الملتبس قولاً وعملاً حين يريد، وهو الواضح تلميحاً وتصريحاً حين يشاء، وهو “فرعون” القرار إذا أوحي إليه، وهو “موسى” إذا قيل له وما تلك بيمينك يا موسى…”. هذا “الرئيس” يتفق الجميع على أنه “حيادي”، هو اتفاق مزعوم يعلم كل طرف فيه أنه مزعوم، ومثل علم الزاعمين، يعلم دولة الرئيس، ورئيس حركة أمل، أن اللاعبين ينسبون إليه حيادية مزعومة، لا لشيء، إلا لأن السياسة المحلية، وإدارة التكاذب في متونها، تقتضي دائماً دغدغة الذات والآخرين، بافتراضات كاذبة.
اللا إنتظام في النظام
لكن النظام العام الذي يجب أن يكون سمة شاملة، تنفيه تفاصيل الهجمة المضادة، فهذه تحمل لا إنتظامها التكويني ” البنيوي” في حشدها، وتحمل لا إنتظامها في وجهتها الساعية إلى إطلاق سهام السياسة على الحركة الشعبية التي رفعت صوتها بالرفض لكل الأداء السياسي الرسمي، وإدانته بالعبارة وبالصوت وبالشعار.
تكوينياً، “قائد الهجوم” طرف في ثنائية مذهبية تسعى إلى الإمساك بمفاصل النظام الرسمي، هذا في السيرة اللبنانية خروج بنيوي على الصيغة، وإخلال أصلي بأعرافها وبمواثيقها، إلى ذلك فإن تكرار تجربة الهيمنة والاستئثار بالاستناد إلى عوامل تفوق ذاتية لطرف ما، شكل ممراً إلى لا انتظام سياقي عام جاء الرد عليه من خلال اشتباكات أهلية متفرقة، وفي محطات تاريخية معروفة.
لقد كان السعي إلى التفوق الداخلي الدائم، من خلال توظيف اختلال الموازين اختلالاً مؤقتاً، سبباً للحرب الأهلية اللبنانية الكبرى عام 1975، وفي الوقت عينه، كان الإقفال على مطالب الحركة الشعبية، والرد عليها بجمود النظام الرسمي وبركائز ديمومته المتقادمة، سبباً أصلياً أيضاً في اندلاع الاشتباك البنيوي اللبناني الداخلي.
قياساً على ذلك، ولأن طرفاً لبنانيا أهلياً يسعى إلى كتابة السيرة الداخلية بكلمات مستقاة من القاموس اللبناني العتيق، يجدر بالمتابع أن يرى في المحاولة المستمرة سياقاً لا إنتظاميا، يضاف إلى محطات لا إنتظامية سابقة، كانت حصيلتها تخريب النظام عندما كان أهل المحطات يسعون إلى الاستيلاء على النظام.
تحضر في هذا المقام مسألة استطراديه يجري تداولها على نحو مغلوط سياسياً. تتلخص المسألة هذه بعبارة: الثنائية الشيعية لا تريد بناء الدولة، أو هذا رأي أحد طرفيها، أي حزب الله، الذي لا تتطابق بعض حسابات حركة أمل مع بعض حساباته القصوى.
لقد برهنت مجمل سياسات الثنائية سابقاً، ويبرهن الهجوم الحالي، وبقيادة الثنائية المضمرة والمعلنة، أن ممثلي الثنائية يريدون الدولة، إنما الدولة التي يريدانها حسب نظرتيهما المستقبلية، أو حسب النظرة الغالبة والمتغلبة لواحد من الفريقين اللذين يديران شؤون الشيعية السياسية، ويختزلان النطق باسمها.
التحرك المؤجل
سرعة التشكيلة الحاكمة والمتحكمة في استغلال الظرف الوبائي، يقابلها ثبات في المكان من قبل التجمع الذي كان حاضرا في 17 تشرين الأول من العام الفائت. ليس مبرراً الانسحاب الشامل، وليس صحيحاً الجلوس على مقاعد الانتظار.
مقاربة السياسة الاعتراضية من الحركة، هي الأسلوب الأنسب والضروري للحد من تعاظم الأثر السلبي لسياسات أركان السلطة الرسمية. في هذا المجال ، يجب أن يكون لافتا تزوير أساس الاحتجاج الشعبي، ويجب أن يكون واضحا بالنطق، وبما يناسب من حركة في الشارع في ظل الظرف الصحي السائد، أن الخلل الأساسي كامن في كل سياسات التشكيلة الطائفية والمذهبية، وأن المعضلات العامة جميعها، تجد أساسها في النظام المعضلة، هذا الذي أهدر السيادة والاستقلال وسائر المقدرات الوطنية… لا بديل من المسارعة إلى الاستدراك اعتراضياً، ومن الأهمية بمكان كبح اندفاعة عربة توحش النهب الرسمي، ومن ضرورات الوضوح التصويب على “سائق” العربة الجديد، هذا الذي تنسب له حنكة تفوق حنكة أترابه، لكنها، أي الحنكة، لا تجعله سائقاً يقود على غير الدروب الرسمية، حتى لو كانت القيادة نظامية رسمية، وغير انتظامية.