نجحت “ثورة 17 تشرين” في الكشف عن اصابة العهد القوي بـ”الانكار”. حالة وردت في كتب الطب النفسي والسلوكي ودرسها العالم النمسوي الشهير “سيغموند فرويد”، وربطها بعجز العقل الباطن عن حل بعض مشاكله أو بإصابته بتوتر لا قدرة للشخص على تحمله، فينكر الحقيقة أو يغيّرها أو يتلاعب بها.
أول عوارض هذه الحالة ظهر مع عودة الجنرال ميشال عون إلى لبنان، لكنه بات واضحاً كـ”عين الشمس” منذ تحقيق الحلم وتوليه سدة الرئاسة، إذ لم يترك فرصة، إلا ويتحدث فيها عن أنه “ورث تركة ثقيلة” (الدين العام)، وازدادت حدته مع تولي فريق “8 آذار” بقيادة “حزب الله” الحكم في البلاد. ولأن “كورونا” عطّل الثورة، بدأ هذا الفريق يستعد لمعركة استباقية يوجّه فيها اللبنانيين إلى المصارف لإبعاد المسؤولية عن “عهد منفصم” و”حكومة فاشلة”، في وقت كان يوجّه الوزير السابق جبران باسيل أصابع الاتهام نحو الثورة.
في آخر جلسات مجلس الوزراء، تكررت الأسطوانة نفسها وقال عون: “بعض السياسيين الذي ينتقد عمل الدولة ومؤسساتها، هو من الذين فتكوا بالدولة على مر السنوات وارتكبوا المخالفات المالية وغير المالية، حتى تراكم الدين العام للدولة ليتجاوز 92 مليار دولار”. لحن أعاد توزيعه باسيل أمس: “هناك سياسة اقتصادية ومالية منذ ثلاثين سنة اوصلتنا للانهيار”… إذاً، يريد العهد منا أن نرمي كتب التاريخ ونفهم أن السياسة العونية دخلت لبنان في العام 2016؟ ماذا عن مسيرة “حلم الوصول إلى الكرسي؟”.
هي رحلة بدأت منذ الثمانينات، ودفع ثمنها لبنان حروباً ودماراً وضرباً لاقتصاده، فحتى ما أطلق عليها “حرب التحرير” لم تكن بعيدة من هذا الحلم ولا تخلو من أجندات خارجية. يقول وزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع في مذكراته “الرواية المفقودة”: “اتصل بي السياسي العراقي السابق والمعارض طالب السهيل بهدف نقل رسالة شفوية من عون إلينا. استقبلت السهيل وشرح لي طبيعة العلاقة التي تربطه بعون وأن الأخير ليس ضد سوريا ويقدّر عاليا الرئيس حافظ الأسد، وأنه مستعد لفتح صفحة ايجابية مع سوريا في حال دعمناه للوصول إلى رئاسة الجمهورية (…) لكن الجنرال عون لم يكن مستعداً لانتظار الموقف السوري (…) استعجل عون وبكلام أكثر دقة وجد من يستعجله في إعلان الحرب على سوريا، كان ذلك هو دور صدام حسين وعرفات اللذين لم يخفيا في أي حال مشاعرهما تجاه سوريا (…) وفي 14 آذار 1989 أعلن عون رسمياً بدء ما سماه حرب التحرير”. فهل كانت الكرسي تستحق حرباً؟
حلم تطلب “صفقة العودة” مع السوريين كشف عنها فايز قزي في كتابه “من حسن نصر الله إلى ميشال عون – قراءة سياسية لحزب الله”، وبعد العام 2005، إعادة خلط الأوراق على قاعدة “المسامح كريم… المهم الوصول إلى الكرسي” وبات الحليف الأول لـ”الحزب”. ومنذ العام 2008 تولى التيار العوني وزارة الطاقة ودفع لبنان الثمن نصف الدين العام جراء سياسات هذا التيار، فضلاً عن مسيرة طويلة من التعطيل وجولات طائفية.
أمام هذا الانكار تبرز الحقيقة في مذكرات السفير السعودي السابق عبد العزيز خوجة في كتابه “التجربة”: “لقاءاتي بالجنرال ميشال عون كانت قليلة ورسمية حضر بعضها صهره جبران باسيل وكان عون خلال الاجتماعات إما متوتراً أو شارد الذهن فموقفه مني كان سلبياً لأنه ظن أنني عقبة امام رئاسته. لم يستوعب عون أنني أمثّل شبه اجماع عربي ودولي تتصدره بلادي، وأن طالب الولاية لا يولى لأنه غالباً يريد الوصول إلى السلطة من اجل التسلط، ومع أن عون كان رجل دولة إلا أنه في سبيل السلطة انحاز إلى الميليشيا ضد الدولة كما انحاز إلى إيران ضد العرب، وتاريخه سلبي تجاه اتفاق الطائف الذي أعاد الاستقرار إلى لبنان ويضاف إلى ذلك انخراطه في تحالف الاقليات الإيراني، ما يعني أننا أمام مشروع حرب أهلية قد ينفجر في اي وقت”.
في تموز من العام 2019 قال عون: “سأسلم الرئيس المقبل وطناً افضل بكثير مما هو عليه اليوم”، وبعد أقل من سنة على هذا التصريح وقبل أكثر من سنتين على انتهاء العهد يكاد لا يعود هناك لبنان ليستلمه الرئيس المقبل!!