هل تكون فضائح الفساد مدخلاً لتنحية الأسد؟ هذه الفضائح ليست بجديدة على السوريين، وتحديداً على الموالين منهم، ولم تؤثر في مواقفهم السياسية عندما كان الأسد في خطر إثر الثورة. أقصى ما تصل إليه هذه الشريحة هو الإقرار ضمناً بفساد بشار، ومناشدته شخصياً القضاء على فساد المحيطين به، سواء من باب التقية السياسية أو من باب التسليم بأحقية فساده السلطانية. إلا أن أهم قناعة سورية جامعة اليوم هي كون مصير بشار في أيد خارجية، ولا حيلة لهم الآن أكثر من أي وقت مضى مع وجود قوى احتلال دولية وإقليمية على كامل التراب السوري.
ثمة حرب متعددة المستويات لا يعرف السوريون آفاقها، أو المآل الذي يُراد لها الوصول إليه من قبل قوى ضالعة في السلطة الأسدية. لا يُعرف مثلاً ما إذا كان رامي مخلوف ينطق بعدما شعر باشتداد الحبل حول عنقه، فلم يعد أمامه سوى محاولة تجريب الابتزاز الانتحاري من مبدأ “عليّ وعلى أعدائي”؟ أو ما إذا كان يفعل ذلك مسنوداً بدعم خارجي يُراد به الضغط على بشار، خاصة أمام النواة الصلبة من مواليه؟ الموالون الذين اعتادوا على التسليم لبيت الأسد ليس من إشارة لهم كي يفكّروا في مراجعة ولائهم، إذ لا يُستبعد أن يكون رامي مدفوعاً من طرف خارجي، وأن ينقلب عليه لاحقاً أولئك الذين ورطوه.
لنتذكرْ إحدى الفرضيات التي شاعت الصيف الماضي، حينها تم تداول الأخبار عن استهداف ثروة آل مخلوف من بشار الأسد، وفُسّر ذلك بطلب موسكو تسديد ديون مستحقة مع عجز في موجودات المصرف المركزي. قيل آنذاك أن الحملة طاولت العديد من أثرياء السلطة، لكن لم تظهر آثار الحملة المزعومة، وعادت الأوضاع إلى ما كانت عليه، أي طوي الحديث نهائياً. خلاف الأسد-مخلوف الأخير ظهر أيضاً بعد حملة في الإعلام الروسي على فساد سلطة الأسد، وتلميح إعلام طباخ بوتين إلى شبكة القرابات المنخرطة فيه، مع التوعد بحرب روسية على الفساد مشابهة لحرب موسكو على “الإرهاب”.
مؤخراً أيضاً، ومن دون الجزم بوجود رابط مباشر، جرى تداول خبر تقديم بشار هدية لزوجته “لوحة فنية” بقيمة 30 مليون دولار، وهو ثمن زهيد بالقياس إلى ثروة آل الأسد بخلاف استغلاله للإضاءة على فساده بينما يغرق موالوه في أشد حالات الفقر. الحدث الذي لم يتم التوقف عنده مطولاً هو ضبط السلطات المصرية شحنة ضخمة من المخدرات ضمن عبوات حليب ماركة “ميلك مان”، حيث وضعت المخدرات في المصنع نفسه الذي أُشيع أن ملكيته تعود لرامي مخلوف. بالتزامن تقريباً، ضبطت السلطات السعودية شحنة ضخمة مماثلة في عبوات من المتة التي تعبّأ في سوريا، ولا يُعرف ما إذا كان ضبط الشحنتين أتى بوشاية ما ضمن تصفية الحسابات التي نشهدها.
قبل حوالى ثلاثة عقود ونصف، شهد السوريون تصفيات ضمن الحلقة الضيقة للسلطة بعد النصر الذي حققته في المواجهة مع الإخوان المسلمين، أبرزها كان النزاع بين الأخوين حافظ ورفعت. بالطبع لا تُقارن مكانة رامي مخلوف بتلك التي كانت لرفعت، لكن، ثمة وجهان للشبه بين اليوم والأمس؛ أولهما التردي الاقتصادي الذي أعقب النصر الأمني القديم والنصر العسكري الجديد، وثانيهما ضلوع جهات خارجية في التصفيات الداخلية للسلطة. في منتصف الثمانينات، أُبعد رفعت الأسد تحت خدعة إيفاده إلى موسكو ضمن وفد عالي المستوى، ليعود الوفد من دونه ثم يُرحّل من هناك إلى منفاه الفرنسي، وتلك عملية لا يمكن حدوثها بغياب التنسيق السياسي والمخابراتي مع كلّ من موسكو وباريس.
في زمن الوريث، تولت طهران ثم موسكو مصير أمراء الحرب، قتلاً على مثال اغتيال هلال الأسد الذي يُنسب لطهران، وتطويعاً بالإشراف الإيراني المباشر، ثم نظيره الروسي الذي أنشأ “الفيلق الخامس” ليضم إليه ميليشيات أمراء الحرب الأسدية مع قسم من الفصائل المعارضة التي أبرمت تسويات تحت مظلة مركز المصالحة الروسي. بمعنى أن الطرفين الروسي والإيراني سيطرا على الشركاء العسكريين المحليين لبشار، ليحتكرا بنسب متفاوتة تهديده أو تهديد استمرار السلالة الأسدية في السلطة. هذه الوصاية المزدوجة بقدر ما تتيح هامش ارتياح لبشار فهي لا ترفع التهديد عن رقبته، خاصة عندما يوضع شخصياً “بمعزل عن التركيبة العسكرية المخابراتية” في الميزان الاستراتيجي للطرفين أو لكل منهما على حدة.
قد يلزم التأكيد على أن الصورة البشعة للأسدية آخر ما يؤرق أقطابها أو حُماتها، أو الموافقين دولياً على بقائها، بمعنى أن خلاف الأسد-مخلوف الحالي لن يضيف سوءاً لطغمة ارتكبت أفظع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إذا لم يكن هذا الخلاف مدبّراً من جهة خارجية نافذة. المؤكد أيضاً أن الخلاف يعكس اهتراء وتفسخ التحالفات القديمة للأسدية، لكنه ليس الاختبار الأقسى الذي تتعرض له، خاصة إذا أُسعفت خارجياً كما حدث من قبل.
تحتمل التطورات الأخيرة، ومنها ظهور رامي مخلوف على هذا النحو، التفاؤل بسقوط بشار، مثلما تقتضي الحذر إزاء الجزم بذلك. مبعث التفاؤل الوحيد أن تمهد التطورات لتداعيات أوسع، وصولاً إلى تعميم القناعة لدى البنية الأمنية بحتمية التغيير، أما مصدر الحذر فهو عدم التعويل على تنحية بشار من قبل موسكو خارج التوافق الدولي الذي أبقى عليه حتى الآن. أشد الاحتمالات تفاؤلاً يشبه ما قاله رامي مخلوف عن نفسه لجهة كونه مُسخّراً ومؤتمناً من قبل الله ومنذراً بعقاب إلهي قادم، على أن يكون مُسخّراً حقاً من قبل مُشغّلين موثوقين بهدف إنزال ذلك العقاب الذي لن يستثنيه.