مبهم بالنسبة إلى كاتب هذه السطور ما حصل في السادس من هذا الشهر. الشارع يمكن أن يتكفّل بالإبهام أيضاً. ليس دائماً بالوضوح.
والإبهام هنا لا يُختصر بمدلول الغموض. في الغموض، أو الإغماض، مدلول الغفلة، “النوم”، إذا ما عدنا إلى لسان العرب لابن منظور. أما الإبهام فهو عسرة في الفهم كما في التفهيم. “البهمة مستبهمة عن الكلام أي منغلق ذلك عنها”.
انقسم المشاركون في هذا اليوم بين دعاة “الانتخابات المبكرة” وبين أنصار “قيام حكومة مستقلين بصلاحيات استثنائية”.
هؤلاء وأولئك “طلع على لسانهم شعر” وهم يكرّرون بأنهم لم يزجّوا بمسألة جمع السلاح. في حين وُجدت مجموعات أخرى تُقنّص بالفعل على مسألة السلاح.
وبالمجمل، استقرّ الإبهام على معادلة تظاهرة ينفي أكثرها عن نفسها شعار جمع أو نزع السلاح كما لو أنّه تهمة، إنّما على قاعدة أن هذه المسألة ليس وقتها الآن أو أن مسرحها ليس الشارع… وهناك أقلية مشاركة تستهدف السلاح قبل أيّ شيء آخر.
وبين الأكثرية والأقلية من المتظاهرين، المحدود عددهم أساساً، رهط يجد في هذا الالتباس مساحة مناسبة له، في وقت تعرّض الالتباس نفسه إلى انتقادين، وعزوفين، من على يمينه ومن على يساره.
هنا من الجانب الداعي إلى الطرح المنهجي المركزي الواضح على التناقض الرئيسي مع السلاح ومنظومة الممانعة، وهناك من الجانب النائي بنفسه عن هذه المسألة حتى إشعار آخر، أو لا إشعار.
في المقابل، اشتباه “حزب الله” بأن السادس من حزيران موجّه ضدّه لم يكن وهماً، ولم يكن من تلفيق الحزب، إنما كان التباساً حملته انتفاضة 17 تشرين منذ أيامها الأولى، واستمرّ بعد توقّف هذه الانتفاضة، لأنه سابق من الأساس عليها، ومتعلّق بوضع معادلته العامة أن مسألة سلاح الحزب مثارة منذ عشرين عاماً، فور التحرير، من دون أيّ نجاح في تأطيرها بالتداول المؤسساتي، الذي وجد طريقه إلى طاولة الحوار لماماً قبيل حرب تموز، لكنه عُلّق عملياً بعدها.
من جهة، اقتدار هذا السلاح كمّاً ونوعاً ومجالات احتراب عابرة للحدود، ومن جهة ثانية تعليق الجبهة الجنوبية بعد حرب تموز مع تمكّن الممارسة الحزبية جنوباً من تقويض المعوّقات التي فرضها القرار 1701 جنوب الليطاني، إنما من دون اشتعال الجبهة نفسها مجدّداً. ومن جهة ثالثة، فشل قوى 14 آذار في تحويل مشكلتها مع السلاح إلى برنامج عمل، وتحوّله بدلاً من ذلك إلى مشجب تعلّق عليه هذه القوى عثراتها وسياساتها المنحازة في الاقتصاد ضد العدد الأكبر من الناس، وفي السياسة ضدّ ما من شأنه مناقشة جدّية للموضوعات الخلافية بين اللبنانيين.
يبقى أن استهلاك 14 آذار لحيّزها من إثارة موضوع السلاح لم يلغ الواقع المادي المرتبط بتداعيات هذا الإشكال المستديم، وتداعيات الانقسام العميق حوله بين اللبنانيين.
وقعت 14 آذار في الاختزالية العقيمة: مقولة أن التناقض مع حزب الله وسلاحه هو التناقض الجوهري، وبالتالي كلّ التناقضات الأخرى ثانوية، ومحلولة بإذن الله ساعة تحلّ مشكلة السلاح، مع الإقرار في نفس الوقت بأن المشكلة الأخيرة عويصة، بل معضلة لا حلّ لها قابلاً للتصوّر لا في الأمد المنظور ولا بعد المنظور إذا ما حُصرت بالجانب المحلي فقط من الأمور.
هذه الاختزالية العقيمة شكّلت الأساس التبريري لكلّ السياسات القصيرة النظر، والمتعارضة بشكل تصاعدي مع مصالح العدد الأكبر من الناس وتطلّعاتهم، وقبل كلّ شيء، مع ناس 14 آذار نفسها.
مشكلة هذه الاختزالية العقيمة في مكابرتها على ازدواجية الإشكال من أساسه.
فمنذ 1968 واللبنانيون منقسمون حول مسألة حصر أو عدم حصر السلاح في كنف الدولة. ناس كانوا ضد الحصر، بمعادلات ناصروها لفترة، ثم تابوا إلى الحصر.
وناس كانوا مع الحصر ثم انقلبت حالهم، بانقلاب هوية حامل هذا السلاح وعقيدته، وتبدّل حالهم وأهوائهم. عام 1968، أول ما ظهر هذا الانقسام كان السيد نصر الله في الثامنة من عمره. يتعلّق الموضوع بمعضلة سابقة على حزب الله إذاً، وبمعضلة عمرها أزيد من نصف قرن.
ليست المشكلة في تناول السلاح. لا يمكن إقفال هذا الموضوع أو تنحيته عن التداول بين اللبنانيين في أمر حاضرهم ومآل بلدهم في عزّ هذه الكارثة.
المشكلة تبدأ من كون من يطرحه يكابر على عمق الانقسام العميق والحاد حوله. هذا ما جعل قوى 14 آذار “تكدش” الحائط من فرط الاصطدام به.
هذا ما يمكن أن يدفع قوى ما بعد 14 آذار إلى الانسداد نفسه، والانفصال عن الواقع نفسه، إن هي واظبت على نفس الاختزالية القائمة على إثارة موضوع السلاح بالمكابرة على واقع الانقسام حوله، في وقت يخبرنا الحزب المسلّح منذ وقت طويل أن هذا الانقسام لا يفسد في مشروعية حمله السلاح شيئاً.
حتى الآن، لم تظهر قوة فعلية في البلد تطرح الموضوع بأبعاده هذه، السلاح والانقسام حوله، التصوّر العام للدولة والانقسامات حوله
الإشكال الذي يندرج ضمنه موضوع السلاح ثلاثي الأبعاد حكماً. الدولة ومفهومها في لبنان، السلاح وعلاقته بالدولة، الانقسام الفعلي حول الدولة وحول السلاح، وما إذا كان الإمكان تجزئة هذا الانقسام إلى جزئين، واحد يعاد تدويره كاختلاف مقبول وله حدّ أدنى من الضوابط حوله، وآخر يمكن الاستغناء عنه.
هذا إن أردنا تجنّب احتقان الانقسام والتهابه أكثر فأكثر، ما يتحوّل إلى قنبلة موقوتة تهدّد ليس فقط الوحدة المجتمعية، بل أيضاً الاستمرارية الكيانية.
إثارة موضوع السلاح منفصلاً عن هذه الثلاثية، يقود إلى اختزالية لم يعد يملك أحد تسديد ثمنها. لا مناص من الخوض في أمر السلاح، إنما ليس أبداً على قاعدة التوهّم بأن هناك عقداً اجتماعياً مستتبّاً، أو انبعث من جديد في أعقاب 17 تشرين، ولا ينتظر سوى وضع اللمسات الأخيرة على تتميمه بتسليم السلاح.
حتى الآن، لم تظهر قوة فعلية في البلد تطرح الموضوع بأبعاده هذه، السلاح والانقسام حوله، التصوّر العام للدولة والانقسامات حوله. هذه المكابرة على الانقسامات مضرّة في العادة، تتوهّم الاقتراب من حسم الأمور في وقت تنزلق في الأوحال.
حتى الآن، هناك إما الاختزالي الذي ليس بمستطاعه طرح مسألة السلاح إلا بتغييب الانقسام الفعلي والجدّي والعميق والمزمن حوله، وإما الإرجائي، الذي يتصوّر أنه يمكن حلّ أيّ قضية أخرى على قاعدة إرجاء هذا السلاح. وأما المريد لهذا السلاح الذي يخبرك مع هذا بأنه يخالف حزب الله أيديولوجياً، كحال اليسار الممانع، الذي لو نظرنا إلى الأمر لوجدنا أن حزب الله يمتاز عليه في البراغماتية، سواء في أسلوب معالجته لمسألة لجوء الحكومة المقرّبة منه إلى صندوق النقد الدولي، أو في أسلوب تفاعله مع التعدّدية الطائفية القائمة في البلد: ليس نافلاً أن تكون صورة الحزب لدى المسيحيين تحسّنت كثيراً بعد تفاهم مار مخايل مع الجنرال عون، في حين أن صورة اليسار اللبناني لا تزال عالقة في الزمن الحربي.
ليس أسوأ من الاختزالي غير القادر على جمع مشكلتي السلاح والانقسام الفعلي حول السلاح في طرح متوازن واحد قابل للتداول والأخذ والردّ والتثمير، ولو من بعد كدّ وجهد، إلا من يحسب أنه بإمكانه الخوض في السياسة، بل حتى اشتهاء تسلّم مقاليد السلطة في البلد، دون مقاربة مسألة السلاح، اللهم إلا من زاوية “ينبغي أن لا ندع السلطة تثير الموضوعات الخلافية بيننا”.
كما لو كان الخلاف قائماً على قِدَم أو حدوث العالم، أو في الموازنة بين نظرية الخلق ونظرية الفيض. كما لو كان هناك عالم موازٍ يقيم فيه الحزب وسلاحه، وعالم آخر هو الذي يتهاوى فيه سعر صرف الليرة ويطلّ فيه قانون قيصر. بل هو عالم واحد، ولأنه واحد وجب النظر إليه بأبعاده المختلفة. الامتناع عن ذلك أدخلنا في فائض من الوهم، ثم أدخلنا في فيض من الإبهام في السادس من الشهر الجاري.
لكنه إبهام يقول شيئاً.
إبهامٌ “بوّاح”.
الإبهام كان سببه محاولة الجمع المستحيلة بين نظرة اختزالية لموضوع السلاح وبين نظرة إرجائية له.
الخروج منه يكون بنظرة غير اختزالية وغير إرجائية.
نظرة ليس لديها أوهام حول “ثورة تشرين” نفسها من أنها أحلّت عقداً اجتماعياً جديداً مكان ذاك الذي قضى نحبه.
نظرة تدرك تماماً أنه عندما ينهار عقد اجتماعي، فليس من اليسر تقويم بديل عنه مباشرة، وأن مسألة السلاح يدور مدارها هنا قبل أيّ شيء آخر.
حسنا، نحن منقسمون حول السلاح، تقريباً نصف معه ونصف ضده، زادا أو نقصا، فما العمل؟ أول العمل طرح السؤال.