لبنان في طريقه إلى تجاوز مرحلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، التي لم تبدأ جِديًا طالما الخلاف على تقدير الخسائر بين أرقام مصرف لبنان وبين الخطة الحكومية أكثر من 100 تريليون ليرة لبنانية.
الخشية أن يكون لبنان بعد قانون العقوبات على سوريا (قانون قيصر) قد دخل في صورة أشمل سياسة واقتصادًا في الصراع الإقليمي بين واشنطن وطهران.
استهداف النظام السوري من خلال القانون لا يخرج عن المعادلة نفسها. بالإضافة إلى أن واشنطن تعتبر سوريا رواقًا (كوريدور) للمشروع الفارسي في المنطقة يشمل العراق وسوريا ولبنان.
وتعلم أن تداعيات تنفيذ القانون لا يمكن أن تبقى بعيدة من لبنان، الذي يتعاطى نظام دمشق معه بوصفه باحته المالية والمصرفية والتجارية الخلفية.
ويبدو أن الإدارة الأميركية باتت تتعاطى مع لبنان وحكومته رهينة في يد “حزب الله”. وما يسري على الحزب يسري على الدولة. الكلام العالي عن المطالبة بوقف المساعدات عن الجيش اللبناني يمكن تفسيره في الإطار المذكور.
وكذلك توصية لجنة الدراسات في الحزب الجمهوري بإصدار قانون يفرض عقوبات على رئيس مجلس النواب نبيه برّي والنائب جبران باسيل بصفتيهما داعمين لـ”حزب الله” بالإضافة إلى كل وزراء الحزب في الحكومة اللبنانية.
لا يحتاج قانون قيصر إلى عناء لتوصيفه من بين أخطر قوانين العقوبات الأميركية. لكونه لا يحدد سلفًا الكيانات والقطاعات والأشخاص التي يستهدفها، بمقدار ما يخوّل الإدارة “صلاحيات استنسابية بأوامر تنفيذية من الرئيس فرض العقوبات تبعًا للمصالح الأميركية”.. ولا يتصل الأمر بطهران وداعميها فقط، بل بانصياع نظام بشّار الأسد للقرارات الدولية في شأن سوريا على ما أبلغه المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري إلى الجالية السورية في الولايات المتحدة بأن “النظام لم يعد قادرًا على إدارة سياسة اقتصادية فاعلة، وعلى تبييض الأموال في المصارف اللبنانية، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان أيضًا”.
في حلقة العلاقات الاقتصادية والمالية اللبنانية السورية المعقّدة التي تدركها واشنطن، وتدرك أنها ازدادت تعقيدًا بعد الحرب السورية وخرجت من إطارها النظامي بين دولتين، سيتشظّى لبنان بقانون قيصر لو استمرت الفوضى التي تحكم التجارة بين لبنان وبين سوريا من خارج اللوائح التنظيمية.
لاسيما منها المعابر الشرعية وغير الشرعية التي عجزت الحكومة اللبنانية عن ضبطها بضغط من “حزب الله”. وسيبقى الموقف الأميركي من مساعدات الجيش اللبناني معيارًا دقيقًا لمعرفة ما إذا كانت واشنطن تعتقد بوجود حكومة في لبنان أم أن البلد سقط نهائيًا في دائرة سيطرة الحزب ونفوذه.
ويُنظر بريبة إلى الموقف الأميركي من برنامج قروض ميسّرة للبنان من صندوق النقد الدولي. ولئن كانت واشنطن والأمم المتحدة والوكالات الدولية تلحّ على الحكومة البدء بإصلاحات قوية لفتح الباب على القروض والمساعدات، فليس مستبعدًا أن تكون واشنطن والمجتمع الدولي أقرب من الاعتقاد في عجز لبنان عن الإصلاحات، في ظل الواقع السياسي المأزوم محليًا وإقليميًا ودور “حزب الله” على هذا الصعيد.
عجائب حكم وحكومة
صندوق النقد الدولي الذي يشهد فرائد بلد ذي سيادة في ممارسة السلطة وإدارة بلاده في طور الانهيار، لم يعد متحمسًا كثيرًا لنتائج ترجى من المفاوضات مع حكومة لبنان. فلبنان ليس مؤهلًا لمفاوضات جِديّة.
ولا يملك قراره الداخلي في السياسة العامة. ولا إشارات توحي بالتصدي للفساد المتأصل في السلطة السياسية. الصندوق لا يعمل مع الحكومة في ظروف طبيعية بكل جوانبها.
الذين عارضوا في البداية طلب مساعدة الصندوق بدعوى شروط التقشف خلدوا إلى الراحة الآن. لكن الصورة انقلبت. الصندوق هو من يطلب إلى الحكومة الإصلاح الاقتصادي وفقًا للخطة التي وضعتها، على نحو يضمن “عدم وقوع عبء التصحيح على كاهل الفقراء والطبقة المتوسطة، مع النجاح في تنفيذ استراتيجيا التصحيح المالي المقترحة”.
على ما قال الناطق باسم الصندوق جيري رايس.
لكن لنسأل ماذا قصد الأخير بهذا النوع من التصحيح؟ واضح إنه يشير إلى إمكان إسهام الموسورين وأصحاب الثروات قبل غيرهم في قيادة مسار الإنقاذ.
وهذا ما لم يقله زعيم سياسي ولا “حزب الله” ولا 14 آذار أو 8. يقوله الصندوق لأنه يدرك بالأرقام مدى تركز الثروة الشديد في يد القلّة القليلة في لبنان.
ويعلم كما لا يفعل غيره بتفاصيل يجمعها كل سنة من وزارة المال ومصرف لبنان والشركات والقطاع الخاص.
ملفات ثلاثة أساسية يطلب الصندوق الشروع بها بالأولوية.
وهي في يد رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره. مؤسسة الكهرباء.
التشكيلات القضائية للانتقال واستقلال القضاء خطوات ضرورية لمحاربة الفساد، والمعابر الشرعية وغير الشرعية.
نصف الانهيار المالي من كهرباء لبنان. الرئيس وتياره همومهم في معمل سلعاتا.
التشكيلات القضائية مجمّدة.
والمعابر تنتظر تنفيذ حزمة قرارات من الحكومة ومجلس الدفاع الأعلى. ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش كان عطوفًا رحيمًا.
حذّر من “عدم إحراز تقدم في التعيينات القضائية وغيرها، والتأخير في إصلاح الكهرباء.
كلها عوامل تضعف موقف لبنان في المناقشات مع صندوق النقد الدولي ولا يمكن للبلد أو الشعب تحمل ذلك”.
كثيرون من بلدان النجوم الخمسة الحضارية يعجبون لقدرة الشعب اللبناني على التحمّل. وعلى طول أناته وصبره. التماسيح وعصابة الأشرار السياسية تضيق ذرعًا بالناس العاطلين من العمل والجائعين والمرضى بلا رعاية.
الملف في مكان آخر
نعم، لبنان ليس مؤهلًا لمفاوضات مع الصندوق أو مع غيره تفضي إلى نتيجة. لا المصارف التي استجمعت قواها وتقود مع حاكم مصرف لبنان هجومًا على الحكومة وخطتها، قالت ما هو مصير حقوق الناس الذين يتعرضون كل يوم للمهانة كي يحصلوا عليها.
ولا الحكومة قالت ما إذا كانت خطتها كفيلة باستعادة المودعين حقوقهم.
الثابت الوحيد قاله رئيس الحكومة حسّان دياب أن ودائع اللبنانيين تبخّرت.
ولم يثبت مصرف لبنان والمصارف عكس ما قاله دياب بعد. وصندوق النقد لا يمكن أن يعمل في أجواء حكومية ومصرفية يسودها الإنكار، وعلى كتفه مفاوضون من بلد واحد يكيد بعضهم للبعض الآخر، ويكذبون بالأرقام ويراوغون بها للوصول إلى خيارات معدّة سلفًا.
لم نعد نخشى فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بمقدار الخشية من خسارة الأهم وهو 10.8 مليار دولار أميركي تعهدات سيدر.
مع قانون قيصر وتوسيع دائرة العقوبات على طهران وقيصر “حزب الله”، لبنان وملفه في مكان آخر.