حينما التقط كيفن كارتر صورته الشهيرة للطفلة الجائعة ووراءها نسر ينتظر موتها ليأكلها، كان في وسط خيار بين ردّتي فعل: إما أن يلتقط الصورة، وهو ما فعله. أو أن يطرد النسر ويحمي الطفلة ويفوّت على العالم اللقطة الصادمة التي نالت جائزة “بولتزر”.
عملياً، استطاع كارتر أن يجمع بين الخيارين، فالتقط الصورة الشهيرة التي توثّق قسوة المجاعة في السودان، ثم بعد التقاطها طرد النسر وأكملت الطفلة زحفها المضني إلى أحد مراكز توزيع الطعام. ولم يعرف أحد ما إذا كانت الطفلة قد وصلت ونجت أم ماتت في الطريق.
لم يساعدها كارتر ولم يلمسها لأنّه جرى تحذيره سابقاً من عدم لمس الأطفال بسبب خطر انتقال أمراض مُعدية. قال كارتر إنّه التقط الصورة لأنّ عمله هو التقاط الصور. وكان قد انتظر أكثر من عشرين دقيقة على أمل أن يفرد النسر جناحيه من أجل أن يحظى بأفضل صورة ممكنة، لكنّ النسر لم يفعل. وبيعت الصورة لصحيفة “نيويورك تايمز”، ونالت انتشاراً واسعاً. بعد حوالي عام من التقاطها، انتحر كارتر في شاحنته قرب نهر في جنوب أفريقيا. وضع حداً لحياته بعدما عجز عن احتمال قسوة ما شهده في مجاعة السودان.
البطون الخاوية تحتاج إلى ما يدعمها بصرياً لنقل الجوع وألمه الداخلي الذي يصعب إيصال وقعه القاسي في النفوس إلى الصور
“الطفلة والنسر” تعتبر اليوم الصورة الأكثر تعبيراً عن المجاعات. تحضر لدى الحديث عن أيّ مجاعة تضرب في أيّ مكان حول العالم. تستعاد الصورة لقوة ترميزها للمجاعة، ولقسوتها التي لا تُحتمل. ولا محيد من استحضارها مع نشر “وكالة الصحافة الفرنسية” مجموعة صور لمواطنين لبنانيين إلى جانب برّاداتهم الخاوية المفتوحة.
الصور قاسية بدورها، لكنّها ليست بقسوة صورة كارتر. وأثارت، كما الحال مع “الطفلة والنسر”، موجة نقاش حول أخلاقية التقاط صور مماثلة.
كثيرون وجدوا في هذه الصور “إهانة” للبنانيين. لا يريدون لأبناء بلدهم أن يظهروا بهذه الصورة القاسية و”المذلة”. كثر تحدّثوا عن “عزّة النفس” و”الكرامة” وسواها من العبارات التي تربط بين الفقر والعيب، بين الجوع والكرامة.
هل أخطأ مصوّرو الوكالة في التقاط هذه الصور التي تنبىء بمجاعتنا الآتية؟
لقد اختار مصوّر وكالة الصحافة الفرنسية البرّادات لإظهار الحال التي وصلت إليها الأزمة الاقتصادية اللبنانية. البرّادات في صور لبنان، تعادل النسر في صورة السودان الشهيرة.
البطون الخاوية تحتاج إلى ما يدعمها بصرياً لنقل الجوع وألمه الداخلي الذي يصعب إيصال وقعه القاسي في النفوس إلى الصور. في صورة السودان: النسر هو الألم.
هو الموت المتربّص. في لبنان، البرّادات الخاوية هي الألم، هي الباب المشرّع على احتمالات الجوع والبرد والغد القاتم الخاوي. العقل الذكي اختار البرّادات لما لها من رمزية لدى اللبنانيين الموصوفين بالكرم، والمستدلّ عليه من البرادات والثلاجات. إذ يُقال: “برّاده بيضلّ ملان”، أي أنّه مرتاح مالياً وكريم.
رزقه كثير وسفرته عامرة. اللبنانيون يعرفون رمزية برّاداتهم جيداً. ويعرفون أنّ خواءها مقدّمة لخواء البطون، ومقدّمة لتربّص نسر الجوع بجيفة هذه البلاد المتحلّلة.
ذهب النقاش عميقاً في أحقية المصوّر في التقاط هذه الصور. قيل إنّ فيها شيئاً من محاولة استجرار الشفقة. وقيل إنّه من غير الأخلاقي كشف وجوه الناس وهم يعرضون جوعهم بهذه الطريقة.
بعد أكثر من مئة عام، يعود شبح المجاعة ليخيّم على البلاد، وهذه المرة مع تعرّضها لاجتياح جراد من نوع آخر
قبل سنوات، في الذكرى المئوية للمجاعة في لبنان (1915)، استضافت جامعة القديس يوسف معرضاً يروي بالصور والوثائق المأخوذة من محفوظات الآباء اليسوعيين، قصّة المجاعة في لبنان واجتياح الجراد.
وقد عمل على جمع هذه المادة كلّ من المؤرّخ اللبناني كريستيان توتل والأب بيار فيتوك اليسوعي. وتضمّنت الصور مشاهد غاية في القسوة لأطفال وقد أكل الجوع أجسادهم النحيلة.
صور الجوع دائماً قاسية ومؤلمة. فهل كان على المصوّرين آنذاك أن يُعرضوا عن التقاطها وتوثيقها؟ هل كان توثيق المجاعة اللبنانية سقوطاً أخلاقياً؟
بعد أكثر من مئة عام، يعود شبح المجاعة ليخيّم على البلاد، وهذه المرة مع تعرّضها لاجتياح جراد من نوع آخر، جراد السلطة السياسية التي دخلت إلى البيوت وفتحت البرّادات لتأكل الأخضر واليابس وتفرغها بالكامل.
وقد اختار أصحاب هذه البرّادات التي أفرغها الجراد أن يفتحوها أمام عدسة الكاميرا. اختاروا، بكامل وعيهم، أن يكونوا في الصورة الإرادية إلى جانب البرّاد الخاوي، ربما لتفادي الصورة اللاارادية المستقبلية إلى جانب النسر!
النسرُ يقترب. والمصوّرون جاهزون.