عالي الخبز… عالي
خَيِّي “عَلِي” اللي تكَفَّن بْبالي
مشتاق يشبَع… والخبز عالي
يقِلّو: انْزال… وما يطالو الصَّوت
خَيِّي “عَلِي”- وحَقّ الشَّبَع غالي-
مشتاق يِشبَع… قال: بِشبَع مَوت
قزحيّا ساسين (3 تموز 2020)
إما تنتحرون، أو تسكتون. أن تصرخوا من الجوع، فهذا ممنوع. أن تتظاهروا: ممنوع. أن تهتفوا ضدّ الحاكم بأمره، حزباً وسيّداً وأميراً وبيكاً ورئيساً وريّساً: ممنوعٌ ممنوعٌ ممنوع.
لكم الجوع، والتسوّل، فتأكلون من حاويات النفايات، أو تستعطفون ربطة خبز من هذا الحزب أو ذاك. ولكم الخنوع، و”الاتجاه شرقاً”، لطلب المعونة من العراق، وهو بلد مفلس أكثر من لبنان مؤقتاً على الأقل. ولكم الذلّ والهوان والسجود لآلهة السلاح. وإلا، فلا يبقى إلا خيار واحد: الانتحار. هناك “تشبعون” بالموت، على ما ذهب الشاعر الجميل قزحيّا ساسين في رثاء علي الهقّ أمس الأوّل.
خيارات قليلة، أجاب عليها ثلاثة رجال خلال ساعات قليلة ومؤلمة: علي الهقّ وسامر حبلي وخالد يوسف. ثلاثة رجال رفضوا الجوع والذلّ، وخجلوا من أن يمدّوا أيديهم، ومُنعوا من الصراخ، فتحوّل وجعهم إلى رصاص ومشنقة.
أما رابعهم، فهو المحامي واصف الحركة، ابن ضاحية بيروت الجنوبية، الذي سال دمه على رصيف الأشرفية، بعدما وصل 4 شبّان من “تحالف الموتوسيكلات”، واعتدوا عليه بآلات حادّة على رأسه. واصف الذي “يتعب” الحاكمين، ومن داخل الضاحية.
ثلاثة رجال رفضوا الجوع والذلّ، وخجلوا من أن يمدّوا أيديهم، ومُنعوا من الصراخ، فتحوّل وجعهم إلى رصاص ومشنقة
لا مبالغة في وضع واصف بين ثلاثة منتحرين. لكنّه زميلهم. لم ينتحر واصف، لكنّه يعرف أنّ خيار الاعتراض بات عملاً انتحارياً. كلّ معارض لهذه السلطة هو انتحاري. وحين كان أحد الأحزاب يحضّر “مسرح” الاعتداء على واصف، وينظّم الجريمة بشكل أمنيّ محترف، كان علي الهقّ يحضّر العلم وسجلّه العدلي، وكان سامر حبلي يحضّر الأقمشة والشراشف التي صنع منها مشنقته، وكان خالد يوسف يستمع إلى أخبارهم، ويحضّر مسدّسه لينهي حياته في اليوم التالي.
هو مشهد واحد، لا يمكن تجزئته. جائعون و”مُذلّون مُهانون” قرّروا الرحيل. ترك سامر عائلة، وكذلك علي. وواصف الذي كان على رصيف في الأشرفية. رسالة “الأشرفية محترفة. لم يعتدوا عليه في الضاحية، ولا في غرب بيروت. كأنّ هذه الخطّة ستجعلنا نظنّ أنّ “الكتلة الوطنية” أو “الكتائب” أو “القوات” هم من اعتدوا عليه.
يا لذكاء المُعتدي. يا لغباء المعتدين.
الأربعة أبناء بيئة واحدة: الفقر. وأربعتهم ضحية قرار رجل واحد وحزب واحد، بأنّه يريد أن يحارب الكوكب كلّه، ببطوننا الخاوية، وكراماتنا المهدورة أمام أفران الخبز ومصارف النصب ودكاكين الهوان، وكلّها متنكّرة بأسماء مستعارة وكاذبة: “فرن الكرامة” و”مصرفكَ حدّك دايماً” و”دكّان العزّة”.
ثلاثة انتحروا، وثالث سال دمه على أيدي رُسُل التحذير والترهيب.
خالد يوسف انتحر في صور يوم السبت مطلقاً الرصاص على رأسه. صور التي كانت تسيطر على تجارة البحر المتوسط، وخرجت قرطاجة من رحمها، بات أهلها يجوعون وينتحرون هرباً من الديون. صور، جوهرة جنوب لبنان، جنوب العزّة والكرامة، وقد بات جنوب الجوع والانتحار.
صيدا التي قاومت، من أرتحششتا إلى الصهاينة، وصمدت، ولم تُهن، يحاصرها الجوع اليوم
ومن صور إلى صيدا، التي قرّر ابنها سامر حبلي أن يشنق نفسه في وادي الزينة، جائعاً وغاضباً ويائساً على بعد أمتار قليلة من ابنته وزوجته. صيدا التي قاومت، من أرتحششتا إلى الصهاينة، وصمدت، ولم تُهن، يحاصرها الجوع اليوم.
وعلي الهقّ، ابن بلدة الكواخ في الهرمل، ومن سكّان المريجة في ضاحية بيروت الجنوبية، انتحر في مشهد مؤلم على رصيف شارع الحمرا برصاصة في الرأس أيضاً. الكويخا التي قدّمت عدداً من شبّانها على مذبح الحرب السورية، “كي لا يغتصب الداعشيون نساءنا”.
لكن ها هو الفقر يغتصب رجالنا، ويذهب بهم إلى الجوع والمهانة، أو الانتحار. ابن الهرمل، من سكّان الضاحية الأبية، مات في الحمرا. أخرج المشهد بعناية. والتحف بأغنية زياد الرحباني “أنا مش كافر”، ليردّ مسبقاً على من اتهموه بأنّه انتحر بمسدّس ثمنه يطعم عائلته لأشهر.
على بعد أمتار من مقهى “الويمبي” سابقاً، حيث قتل خالد علوان، بمسدّس مشابه، جنوداً إسرائيليين ممن احتلّوا بيروت. وعلى بعد أمتار من أوّل عملية ضدّ قوات إسرائيل، في أوّل شارع الحمرا، قرب صيدلية بسترس، استخدم علي مسدّساً، سلاحاً، لكن ليقتل نفسه وليس عدوّه.
ابن الضاحية والهرمل، وابن صور، وابن صيدا، كيف قرّروا أن ينتحروا. هؤلاء الذين في عزّ الاحتلال الإسرائيلي قاوموا وقتلوا واستشهدوا، من أوصلهم إلى أن يطلقوا الرصاص على رؤوسهم؟
دماء 4 رجال، نجا منهم فقط الذي كان “يقاتل”، الذي طرد اليأس: واصف الذي يقاتل على التلفزيونات، ومن داخل بيئة الفقر، ومن داخل بيئة الحزب الحاكم في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث ترشّح عن المقعد الشيعي ولم يوفّق.
لكنّ الرسالة كانت: ستلحق بهم. سنقتلك كما قتلناهم. هم ماتوا بمسدّساتهم ومشانقهم، وأنت تموت بأسلحتنا البيضاء أو السوداء. لا فرق. أمامك الجوع والصمت، أو الموت الصامت. لا صراخ، ولا رأي، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
ضرب واصف تزامن مع عمليات الانتحار. هناك من أراد القول: إما تنتحرون أو نقتلكم. لا مكان للثورة هنا. لا مكان لواصف وأمثاله. إما تكونوا علي الهقّ وسامر حبلي وخالد يوسف، أو تهتفون كالنعاج: لبيك يا قاتلنا. لبيك يا سارقنا لبيك يا ضارب واصف. لبيك يا قاتل علي. لبيك يا قاتل سامر. لبيك يا قاتل خالد…
سنقتلك كما قتلناهم. هم ماتوا بمسدّساتهم ومشانقهم، وأنت تموت بأسلحتنا البيضاء أو السوداء
نحن أبناء الجنوب، صيدا وصور، وأبناء الهرمل، نحن الفقراء، منبع هذا الخراب العميم الذي يملأ دنيا العرب، منبع هذه اللعنة، بسلاحها وعقلها الاعتدائي، بحقدها حقداً عمره مئات السنين، برغبتها في السيطرة على العالم…
نحن الفقراء في الجنوب والبقاع، منبع هذه اللعنة التي اسمها “قوّة” و”سلاح”، غشّنا سكوت جيراننا من اللبنانيين عن سطوتنا، وخدعتنا قدرتنا على الاستبداد بلبنان، حتى تطاولنا على كل عزيز، وكل محسن إلينا، وحين افرنقعوا من حولنا، حين صرنا غلاظ القلب وفظّين، وانفصّوا من حولنا، ها نحن في قلب مجاعة، نحمل السلاح، نحارب طواحين الجوع وأغنام الطفر، طفّاراً في جرود الدولار… ولن ينفع السلاح إلا للانتحار.