تجربة الذهاب بالزراعة الى حدودها القصوى، كما جرت الدعوات في الآونة الأخيرة، ليست إختراعاً “لبنانياً”، وإن كانت احتلّت مرتبة الفتوى على لسان اصحاب السلطة.
قبل لبنان المأزوم بسبب إدارته السياسية وتوجيهات مُرشده، رأى قائد الخمير الحُمر بول بوت، أنّ المواجهة مع الأمبريالية الأميركية في بلاده كمبوديا، تقتضي تحويل المجتمع بأكمله مجتمع انتاج زراعي، فشنّ حملة قتل وتصفية ضدّ كل الذين يحملون شهادات، من أساتذة الجامعات وموظفي الدولة والقطاع الطبّي، تحت عنوان كل مُثقّف هو رجعي بالقوة، وأقفل المؤسسات التربوية والصحية والإنتاجية، وجعل مبنى “ليسيه ديكارت” في العاصمة بنوم بنه سجناً يُنْقَل سكّانه بسرعة نحو الآخرة، ودفع بالسكّان جميعاً الى الريف، للعمل بالسُخرة في بساتين الرزّ وغيره ممّا امتازت البلاد بإنتاجه.
وطوال أربع سنوات (1975-1979) أُفرغت المدن من سكّانها، وتحوّلت منازلها الجميلة هياكل استباحها جُندُ النظام، ونُسِفَ مبنى البنك المركزي لتقبع تحت جدرانه المُدمَّرة صناديق العملة الوطنية المطبوعة حديثاً (الريال). كان ذلك التدبير تتمّة طبيعية لقرار دفع المجتمع الى الزراعة من أجل تثويره وتقوية جهازه المناعي والمُمانعاتي في وجه المؤمرات، وبهدف إحلال إقتصاد السوق القائم على التبادل البضائعي، من دون الحاجة الى العملة.
لم تكن تلك التجربة اليائسة،التي إرتقت الى مصاف الجريمة ضدّ الإنسانية، بعيدة من تأثير الجارة الشرقية الكبرى. ففي الصين، كان يدور صراع على السلطة، استوجب إطلاق الثورة الثقافية التي شوّهت البلاد، وحوّلت نُخَبها مُضطهدين في الشوارع، وجعلت ووهان مصدر “كورونا” في أيامنا مرتعاً لعشرات الميليشيات المُتقاتلة. وقد تأثّر بول بوت وصحبه بتلك الحالة الشاذّة، فدفعت كمبوديا كما الصين، أثماناً كبرى.
كانت لي تجربة خاصة مع تلك المأساة الزراعية عندما وصلت كمبوديا في ربيع سقوط بول بوت. لم أجد ما آكله بالرغم من السعر المرتفع الذي عرضته، وانتهى الأمر بمُبادلة القميص الذي كنت أرتديه بثِمارٍ من المانجو.
انتهت المُمانعة الزراعية الكمبودية والصينية في الوقت نفسه تقريباً. انفتحت الصين على رساميل وتكنولوجيا الغرب واليابان، وجذبت مليارات الدولارات الى استثماراتها، وعادت كمبوديا بلداً طبيعياً أعاد الأمير سيهانوك الذي طُرِدَ من قصره يوماً الى القصر نفسه، وحاكم شعبها من ظلموه، وطاردهم بالعدالة حتى القبر.