تؤكّد ردود الفعل الإنفعالية على حكم المحكمة الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري من قبل المؤيدين والمعارضين لها، أنهّا محكمة اعتمدت في حكمها على الأدلّة التي لا يشوبها أي شكّ معقول، ففرح المُمانعون بتبرئة 3 ممّن كانوا مُتهّمين، وبعدم توفر أدلّة على تورّط قيادتي “حزب الله” والنظام السوري، وغضب المستقبليون وحلفاؤهم لأنّ المحكمة دانت فقط سليم عياش، وبرّأت المتّهمين الآخرين، ولأنّها لم تُسمّ قيادات وجهات كانوا يرغبون في أن تُسمّى كمتورّطين في الإغتيال، تنتمي إلى “حزب الله” والنظام السوري.
المحكمة إذاً، ووِفق ردّات فعل المُمانعة، لا تعمل لدى إسرائيل والولايات المتّحدة، وليست محكمة هدفها التآمر على “حزب الله” والنظام السوري. فالمحلّلون والشخصيات السياسية الذين ينتمون الى هذا المِحور بدا وكأنهم أُصيبوا بخيبة أمل جرّاء الحكم الذي صدر، وبدا وكأنّهم كانوا يرغبون في أن تصدر هذه المحكمة حكماً يطاول بالإسم كلاً من “حزب الله” والنظام السوري، فهكذا تُفسّر شماتتهم بالحكم الذي صدر، وبجمهور رفيق الحريري، وبالمحكمة ككلّ.
ولكن اليوم، وبعدما “راحت السكرة وأجت الفكرة”، لا بدّ من حديث واقعي في حكم المحكمة إستناداً إلى حيثيات الحكم التي تلاها قضاة غرفة الدرجة الأولى.
لقد اعتبرت هذه الغرفة أنّ سليم عياش، والذي وُجدت أدلّة أنه مرتبط بـ”حزب الله”، مُذنب ومُدان في كلّ الجرائم التي أُسندت إليه في هذه العملية الإرهابية ذات البعد السياسي، والتي اعتبرت إغتيالاً سياسياً، كما وجدت هذه المحكمة أدلّة على تواصل بين سليم عياش ومصطفى بدر الدين، ولكن هذه الأدلة ليست كافية كي تسمح لها بالقول بأنّ بدر الدين كان المخطّط لعملية الإغتيال، فربّما كان له دور آخر، بحسب المحكمة، ما يعني بأنّه لم يُبرّأ ولم تتم إدانته، لا سيّما وأنّ محاكمته قد توقّفت بعد الإعلان عن وفاته في أيار من العام 2016.
في الوقائع التي أوردتها المحكمة أيضاً، أنّه ما من دليل على أنّ قيادتي “حزب الله” والنظام السوري متورّطتان في عملية الإغتيال، وأنّ العلاقة بين الحريري والسيد نصرالله كانت جيدة، ولكنّ المحكمة تحدّثت عن أنّ العملية تقف وراءها منظّمة متماسكة ومحكمة، شارك عشرات منها في التخطيط والتحضير والتنفيذ، وربّما كان بعضهم لا يعرف أنّ المستهدف هو رفيق الحريري، وسألت عن السبب الذي جعل رستم غزالة وقبل يوم واحد من الإغتيال، يلحّ على قبض أموال من الرئيس الحريري وكانت الدفعة مزدوجة. وقالت المحكمة في عرضها لحيثيات الحكم إنّ “الإغتيال هو عمل سياسي أداره أولئك الذين شكّل الحريري تهديداً لسياساتهم، وأنّهم كانوا قرّروا اغتياله فقط في حال قرّر الإستمرار بمساره بالإبتعاد عن سوريا، وأنّهم قاموا بتحليل للمنافع والأضرار، وتوصّلوا الى أنّ المنافع تفوق الأضرار، وانّ قرار اغتيال الحريري ما كان ليُتّخذ بخفّة”.
المحكمة قالت أيضاً “إنّه من المرجّح أنّ قرار الإغتيال لم يُتّخذ إلا في شباط بعد الإجتماع الثالث للقاء البريستول، والذي تبعته زيارة نائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم للحريري في قريطم، وأنّ المحكمة مقتنعة أنّ قرار تنفيذ الإغتيال اتّخذ في الأسبوعين السابقين للعملية”.
هذه الإستنتاجات لست أنا من يرويها، وهي استنتاجات سياسية لجريمة إرهابية سياسية، وهي استنتاجات لا يُمكن للمحكمة أن تتلوها أمام الرأي العام، ما لم تكن ناجمة عن قناعة وأدلّة لا يشوبها شكّ معقول، وهذا الشكّ المعقول هو الذي كان وراء تبرئة أسد صبرا وحسين عنيسي وحسن مرعي واسترداد مذكّرات التوقيف بحقّهم، وهم كانوا مُتّهمين بفبركة إعلان المسؤولية المزوّر، والتزوير ثابت للمحكمة، بغضّ النظر عن المزورين.
هذه المحكمة الخاصة بلبنان، ومن خلال جهل بعض الساسة والمحلّلين، صوّرت للرأي العام وكأنّها مُطلقة الصلاحية تُحاكم من تشاء وتُسمّي من تشاء، ولكنّها في الحقيقة المعروفة منذ لحظة إنشائها أنها لا تُحاكِم سوى أفراد وردت أسماؤهم في القرار الإتّهامي وِفق الأدلّة التي استطاع التحقيق الوصول إليها، ولا تحاكم دولاً ولا مجموعات، وإن طالت مرؤوساً فلا تطال الرئيس، ولكنّها في النهاية أصدرت حكماً، وحدّدت مذنباً في جريمة حدثت منذ 15عاماً، وسبقها وتلاها محاولات اغتيال واغتيالات لشخصيات من فريق سياسي واحد بقي منفّذوها مجهولين.