بعد انتخابه في 2017 رئيساً لحركة “حماس”، خرج اسماعيل هنيّة للمرّة الأولى من غزّة في شهر كانون الأوّل 2019. فزار تركيا وقطر، الدولتين الاخوانيتين، وإيران، التي تموّل “حماس”، وماليزيا، المتحالفة مع هذه الدول الثلاثة، وسلطنة عُمان، التي تلعب دور “الوسيط” في المنطقة، واليوم ها هو في لبنان. لبنان الذي يبدو، وفق هذه الخريطة، أحد الدول الخارجة على المجتمعين العربي والدولي، إذا وضعناه في سياق هذه الجولة، مع استثناء عُمان بسبب طبيعة دورها.
ومن بيروت، وصل هنيّة ليعلن أنّ صواريخه تصل “إلى ما بعد بعد تل أبيب”. قالها محمولاً على الأكتاف، ومحاطاً بمسلّحين نصف مدنيين، يرفعون أسلحة غير مرخّصة، وخارج الشرعية اللبنانية، واستطراداً العربية والغربية.
هكذا أهدى هنيّة حزبَ الله وأمينَه العام، قبل أن يلتقيه، بهجةَ أن يبدو حاضن المقاومة الفلسطينية وزعيم الممانعين في المشرق، في وقت يسخر الكبير والصغير من شعار “طريق القدس”، الذي وصل إلى الأرجنتين وأفريقيا، مروراً بسوريا واليمن والكويت والسعودية وألمانيا وأوروبا، وليس انتهاءً بقبرص ومصر وغيرها وغيرها، ولم يقترب من القدس.
ألا يشفق الضيف الثقيل على هذا البلد الذي يخرّ صريعاً بين أنياب الفقر والعَوَز والمرض، والذي أمامه شهر أو اثنان قبل أن يفقد القدرة على استيراد القمح والأدوية والمحروقات
وصل هنيّة إلى بلد الأرجح أنّه لم يقرأ أخباره. لم يسمع بأنّ مصارفنا أفلست، وودائع اللبنانيين تبخّرت. ولم يعرف أنّ سعر صرف الدولار تضاعف 5 مرّات تقريباً. ولا في باله أنّ تفشّي فيروس كورونا ساهم في تدمير ما تبقّى من اقتصاد لبنان، بعدما دمّره الفساد الإداري والسياسي والمالي. ليأتي بعد كلّ هذا تفجير مرفأ بيروت، فيشكّل ضربة قاضية لاقتصاد بيروت ولبنان.
لا يعرف زائرنا أنّنا مثقلون بالمواجع، وغارقون في الأزمات، وتملؤنا الكوارث، ولا نجد من يعيننا، بل وبدأنا ننهش في بعضنا البعض، وبدأ الأمن يتفلّت، وأخذت شبكات الأمان الاجتماعي تنهار، وبتنا عاجزين عن تشكيل حكومة من دون تدخّل عشرات الموفدين والدول في تجميع القادة.
ألا يشفق الضيف الثقيل على هذا البلد الذي يخرّ صريعاً بين أنياب الفقر والعَوَز والمرض، والذي أمامه شهر أو اثنان قبل أن يفقد القدرة على استيراد القمح والأدوية والمحروقات. وأنّ غزّة تكاد تكون جنّة أمام ما وصلنا إليه، وأمام ما ينتظرنا، من انهيار مالي واقتصادي وصحيّ واجتماعي وسياسي؟
وصل الضيف المحمّل بالرسائل، خرج من المطار إلى شارع الخميني، المكتوب اسمه على لافتة كبيرة تستقبل كلّ واصل إلى لبنان، ليعرف الضيف في أيّ منطقة نفوذ يحطّ رحاله. وعلى طول طريق المطار، صور قاسم سليماني والقادة الإيرانيون، الأحياء منهم والأموات.
ثم انتقل الضيف إلى شارع مصطفى بدر الدين على الجناح، المتهم بالمشاركة في اغتيال رفيق الحريري، والذي اغتيل في سوريا العام 2016. ومن هناك وصل إلى السفارة الفلسطينية.
بعدها سلك طريق جادة حافظ الأسد، ومن هناك إلى شارع قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، في الغبيري، المتّهم بالمشاركة في تخريب مدنٍ عربية وتهجير سكّانها، ومن هناك إلى حارة حريك، للقاء الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
كان حزب الله بحاجة ماسّة إلى من يعطيه بعض الشرعية “المقاومة” ويرشّ عليه بعض العطر الفلسطيني، فوق روائح البارود من المرفأ الممحو إلى كلّ بيروت
هذه الجولة ليست في ضاحية طهران، بل في ضاحية بيروت الجنوبية، أو ربما ضاحية طهران البيروتية. وزيارة هنية إليها ليست فقط للاستعراض “الممانع”.
فهنية “يعمل” لدى الإيرانيين، وينفّذ تعليماتهم. وقد استدعوه على عجل ليشارك في “تدعيم” صورة حزب الله في بيروت، العاصمة التي تعجّ بالموفدين الأوروبيين والأميركيين.
تدعيم صورة الحزب وقد تدهورت بعد تفجير مرفأ بيروت، خصوصاً أنّه متهم غير معلن رسمياً، بتخزين حشوات صواريخه في العنبر رقم 12 بالمرفأ. ويتحمّل مسؤولية، غير ثابتة حتّى اللحظة، عن تفجير جزء من العاصمة اللبنانية.
كان حزب الله بحاجة ماسّة إلى من يعطيه بعض الشرعية “المقاومة” ويرشّ عليه بعض العطر الفلسطيني، فوق روائح البارود من المرفأ الممحو إلى كلّ بيروت.
كذلك أراد نصر الله، ومن خلفه الإيرانيون، الردّ على توقيع الاتفاق بين دولة الإمارات وبين إسرائيل، عبر التذكير بأنّ محور الممانعة يمسك بعضاً من القرار الفلسطيني، ومن بيروت.
وقد استُبق وصول هنية إلى ضاحية بيروت الجنوبية، بإعلان بلدية الغبيري عن تسمية الشارع الأساسي في المنطقة، باسم سليماني، الذي قتلته طائرات أميركية في بغداد قبل 9 أشهر.
بلا شفقة على بطون الجائعين، وآلام المفلسين، جاء هنيّة موجّها صواريخه، الكلامية والحقيقية، إلى صدور العرب واللبنانيين، وليس إلى صدور الإسرائيليين.
جاء يثقل علينا بخطاب التحدّي المجّاني. كأنّ اللبنانيين ينقصهم مثل هذا الكلام، ومثل هذه العنتريات الفارغة والممجوجة، التي لا تعبّر إلا عن بؤس قائليها وتعويضهم بالكلام، ما لا يجرؤون على فعله. كأنّ اللبنانيين يحتاجون إلى كلامه ليزدادوا بؤساً وإحباطاً.
حصل هذا وسط صمت الأحزاب السيادية والشخصيات التي يفترض أن تواجه هذا المنطق. وهكذا جاء حاملاً الرسائل، العسكرية والسياسية، في مهمّة تتناقض بشكل كامل ما حمله الموفدون الغربيون من مساعدات ووعود بالمساعدة في الإصلاح السياسي والاقتصادي. فالموفدون الإيرانيون، أيّاً كانت جنسياتهم، لا يحملون إلا الخراب، أينما حلّوا.
كلمة أخيرة:
بعد أن فجّر أعداء لبنان مرفأ بيروت، خرج نصر الله وتحدّث عن مهلة سماح لرفع الأنقاض وتشييع الشهداء، قبل الحديث في السياسة. وبدا حينها كمن يتوجّه إلى “العدوّ”، طالباً هدنة إنسانية، قبل الردّ على تفجير مرفأ إيران الوحيد على البحر الأبيض المتوسّط. ورفض يومها اتهام إسرائيل.
حسناً.
اليوم نقول لحزب الله ما قاله لنا قبل شهر: يا أخي ارحمونا قليلاً.
جثث بعض ضحايا المرفأ الذي فجّرته سلطتكم، لا تزال تحت الأنقاض. لم ينقضِ “أربعون” الضحايا الآخرون. ارحمنا قبل أن تستقدم هنيّة ليحمل السلاح في مخيّم هنا، ويهدّد إسرائيل من بيروت هناك.
وارحمنا قبل أن تسمّي أكبر طرق الضاحية باسم سليماني، ذلك الجنرال الذي كان يقاتل بشباب العرب، شيعةً وغير شيعة، الدول والأنظمة العربية.
وارحمنا قبل أن تعيد تسخين جبهات داخلية، وتعيد إحياء “داعش”، مع ما يعنيه هذا من إيقاظ خلايا أمنية واستخباراتية لتنفيذ عمليات مشبوهة.
دم الضحايا لم يجفّ بعد. ارحمونا.