لم نفاجأ أبدًا بإصرار برّي على حقيبة وزارة المال. ففيها الامتيازات التي تغري واحدًا من أبرز رموز النظام السياسي الطائفي. وقد كتبنا من زمان أن كل عملية إصلاح في مكان ما هي استعادة امتياز وحقوق للدولة من النظام الزبائني المسيطر على القطاع العام، إلى كنف الدولة والمؤسسات. واللافت استكانة فرقاء آخرين من قناصل الطوائف حيال مطلب برّي. لكنّهم ينتظرون النتيجة كي ينبروا إلى المطالبة بهذه الحقيبة أو تلك. وفي ظروف كهذه تصبح كل حقيبة وزارية مكرّسة لطائفة حين تشكيل الحكومات وخلافًا للدستور.
“عالسكّين يا بطّيخ” شعار برّي التقليدي. حتى إذا غرزه في حقيبة وزارة المال، استلّ كل فريق سكينه ليغرزه في حقيبة وزارية أخرى. استحصاص، ولكل حصته. رضي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أم غضب.. ومعه كل الدول التي هبّت لدعم وطننا، وتلحّ علينا: “ماذا فعلتم ببلدكم، ماذا فعلتم بلبنان؟!”.
أن تزِف مئوية لبنان الأولى، ولبنان في وضع غير مسبوق من المآسي والمخاطر، فأمر ليس عرضيًا وبالصدفة المحض. ويحتاج إلى مراجعة وطنية صريحة وشفّافة لإعادة بناء الدولة والدستور وتحديد الخيارات الكبيرة. لكن الوقت داهم الآن. والناس في أتون فقرهم وأحزانهم وأمراضهم. والبلد يخسر كل يوم العقول والخبرات وجيل بناء المستقبل.
هل صحيح أنّ أولوية هذه الطائفة أو تلك اليوم هي التمسك بوزارة، والحصول على “التوقيع الثالث” وغيرها من الأراجيف الواهية؟ للتذكير فقط: كان قرار مجلس الوزراء في آذار الماضي التوقف قسرًا عن سداد التزامات الدين الخارجية أسوأ إشارة إلى سؤ إدارة المال العام والنقد والاقتصاد منذ 100 عام على لبنان الكبير. لا علاقة لذلك قطعًا بطائفة من يوقّع معاملات وزارة المال أو أي وزارة أخرى. بل بإدارة البلد السياسية الزبائنية التي ما يزال سدنتها يؤثرون منافعهم وامتيازاتهم على مصلحة البلد الوطنية وحاضر شعبه ومستقبله.
غابت مقولة الوزارة السيادية هذه المرّة. استبدلوا بها خجلّا ما يسمّى “التوقيع الثالث”، بعدما فقدنا كل معنى السيادة. الرئيس الفرنسي يتصل برئيس مجلس نوّاب لبنان لتسهيل تأليف حكومة لبنان. كي تبدأ بالاصلاحات وتتفاوض مع صندوق النقد الدولي على برنامج قروض، فيُفتح باب نحو أكثر من عشرة مليارات دولار أميركي. وهناك مؤتمر دعم آخر للبنان في الشهر المقبل ينتظر الحكومة أيضًا. حاشا وكلّا. وزارة المال وليس سواها. كل ذلك واللبناني في حاجة إلى الرغيف وحبة الدواء والوقود. إلى كل شيء. وقد نُهب المال العام والخاص. لا أحد يتحدّث الآن عن ودائع الناس وجنى عمرهم في لبنان والخارج. انفجار المرفأ الذي وُصف بالأكبر بعد الحرب العالمية الثانية، غطّى على كل شيء. ضياع حقوق الناس وتبديد المال العام أكبر من انفجار المرفأ.
مصطفى أديب.. إيّاك أن تقبل أي شرط يُفرض عليك لتأليف الحكومة. لا من هذا ولا من ذاك. أولًا، لأنّ الشعب لا يريد هكذا حكومة. وثانيًا، لأنّها ستكون حكومة فاسدة، ولترعى الفساد وتغرق لبنان في الفوضى العارمة. اللبناني يريد حقوق المواطَنة لا حقوق الطائفة. المواطن تكيّف مع أزمات النفايات. التلوث والكهرباء والمياه والنقل والمرض، تكيفه مع فقدانه فرصة العمل وغرقه في شظف العيش اليومي. وانهيار عملته الوطنية وتآكل قدرته الشرائية. لا يملك اللبنانيون الكثير من المعلومات عنك. يقولون إنّك “صناعة فرنسية”. لا بأس. كل أزمات الشعب وشقائه وبؤسه صناعة وطنية. ماكرون جزع لآلام اللبنانيين. سيأتي مرّة ثالثة في كانون الأول، قال. بعد تأليف الحكومة والبدء بالإصلاحات وتنظيم مؤتمر الدعم المالي في تشرين الأول. إلّا التماسيح الذين نهبوا البلد وحوّلوا أموالهم إلى الخارج وإلى المخابئ في منازلهم لأنّ معظمهم كان على عِلم بإمكان تعرضها لعقوبات وتجميد ومصادرة. وقد بات اللبناني يهلّل حتى للرئيس الأميركي دونالد ترمب، إذ يفرض عقوبات على الفاسدين السياسيين حتى لو كانت على خلفيات سياسية وأهداف منتقاة.
صمود وإصرار
مصطفى أديب لا نطلب اعتذارك عن عدم إنجاز مهمة تأليف الحكومة. بل صمودك وإصرارك على حكومة قادرة على تحمّل مسؤوليات الإصلاح والمضي به إلى الأمام. هذه معركة مضنية وطويلة، لا خلاص للبنان وشعبه إلًا بخوضها حتى نهايتها قبل أن ينتهي لبنان. الدخول في التفاصيل الآن مضيعة وقت. المهم أن تمضي قدمًا وتؤلّف الحكومة الموعودة. نعلم أنّ اعتذارك ليس ملك إرادتك فحسب. إذا كان لا بدّ من ذلك في نهاية المطاف، فأفضل ألف مرّة من حكومة تكرر فصول حكومات أسلافك. وبحسب المعلومات تبدو هذه الحكومة ممنوعة أيضًا فرنسيًا ودوليًا، لأنها لن تضع قدمًا على طريق الخروج من الأزمات وتجتنب السيناريو الأسوأ الذي ينتظر الشعب والوطن. ولن تُفتح لها أبواب الدعم المالي والقروض الميسّرة الموعودة.
كثيرًا ما حاول نبيه برّي لعب دور الناظم للخلافات السياسية في الظروف الاستثنائية. وقد نجح أكثر من مرّة. الآن ظروف لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكثر من استثنائية. ويظهر في موقع العقبة الكؤود لعرقلة تأليف حكومة، وبدعوى لا أساس دستوريًا لها، وهو رئيس مجلس النوّاب ومصدر التشريع والقوانين.