كانت عندنا مشكلتان حاضرتان مع حزب الله وصارت عندنا ثلاث مشكلات: عندنا المشكلة التي برزت أخيراً إبّان محاولة تشكيل حكومة مصطفى أديب، وهي أنهم يريدون وزارة المال نصيباً طائفياً أبدياً مقابل السماح بتشكيل حكومة، أيّ حكومة.
وإن جرى رفض هذا الأمر، فلنمضِ نحو تعديل الدستور باتجاه المثالثة، أو ما سمّاه نصر الله: “عقد سياسي جديد” مرةً، و”مؤتمر تأسيسي” قديماً.
في حين كان المفتي الشيعي الممتاز أحمد قبلان، ومنذ شهور، يصرُّ على قلب كلّ شيء رأساً على عقِب بحيث يبدو الزعيم المعصوم أمام ثوران قبلان معتدلاً جداً!
المشكلة الثانية القديمة مع حزب السلاح، هي سيطرته على قرار الحرب والسلم من وراء ظهر الدولة والنظام، بل من فوق كلّ الرؤوس.
وقد كانت الشكوى الدائمة من جانب السياسيين المعارضين، ومن جانب الإعلاميين أنّ الحزب بذلك يجعل لبنان في حالة حربٍ دائمةٍ مع إسرائيل، وتزعج هجماته الإسرائيليين ولا شكّ، لكنّ الجيش الإسرائيلي يردُّ عادةً ردّأً عنيفاً كما حصل عشرات المرات، ويؤدّي ذلك إلى الخراب والتهجير ووضع السلم الداخلي والخارجي للدولة على كف عفريت.
وبرزت المشكلة الثالثة خلال الخمس عشرة سنةً الماضية بعد اغتيال رفيق الحريري، وشنّ الحرب على سائر المعارضين.
وقد اعتبر كثيرون من القوميين والإسلاميين وقتها أنّ المُراد إسْكات الجميع لمتابعة حربه التحريرية ضد الكيان الصهيوني، وبخاصةٍ أنه خدعهم بالتلفون السلكي الخاص، وبالسيطرة على المرفأ والمطار. قال البعض حتى ممن لم يكونوا معجبين ببطولات المقاومة: هؤلاء عقائديون ويريدون بالفعل تحريرها من النهر إلى البحر، باعتبارهم طليعة جيش القدس.
ومثل منظمة التحرير ما وجدوا منطلقاً غير لبنان، ولأنهم لبنانيون، وأفادوا من تجربة الفلسطينيين فلن يصيبهم ما أصاب الفلسطينيين، وسواء استطاعوا تحرير “مزارع شبعا وتلال كفرشوبا” الخالدة، والوصول بصواريخهم إلى ما بعد بعد وما وراء وراء حيفا وتل أبيب أو لم يستطيعوا!
كلّ تلك التأمّلات ما كانت صائبةً ولا بعيدة النظر.
لقد أرادوا بعد العام 2000 (عام التحرير العظيم!) التمكين لأنفسهم في لبنان، ليس من أجل التحرير جنوباً، بل من أجل إنفاذ المشروع الإيراني مع الاحتفاظ بمسمار جحا التحريري. بعد العام 2006 (آخر الحروب التذكيرية مع إسرائيل)، انصرفوا بالميليشيات وبتطوير السلاح وبالاستخبارات نحو سورية وفلسطين والعراق والبحرين والكويت.. واليمن. هنا لا مبالغة ولا حديث عن مؤامرة، فالزعيم المعصوم ومنذ العام 2008 (أولى غزواته العربية باحتلال بيروت) لا يتدخّل سرّاً في الدول العربية، بل يشنّ حروباً كلاميةً وفعليةً مستمرة على العرب. وعندما تدخّل بسورية عام 2013 قال إنّ مواجهة العملاء والتكفيريين هناك أهمّ من قتال إسرائيل، ثم قال الشيء نفسه عن القتال باليمن.
نعم، منذ العام 2008 على أبعد تقدير شنّ سليماني ونصر الله (ثم ضمّوا إليهم ميليشيات أُخرى كثيرة) حروباً على كلّ العرب، بعد أن نجحوا في إيقاظ وجوه وعيٍ طائفي ومذهبي في سائر المجتمعات، وبالطبع انطلاقاً من لبنان.
فالمشروع الإيراني لم يقتضِ انطلاقاً تخريبياً مريعاً أو استيلاءً مدمِّراً فقط، بل اقتضى أيضاً تربيةً تحشيديةً وانفصاليةً في المجال الديني بالذات.
وهو الأمر الذي نبّهنا إليه وضاح شرارة في كتابه: دولة حزب الله (1994)! فإذا اعترض أيّ طرف شخصاً أو جهةً على استيلاء الحزب على البلاد والعباد أو على توريط لبنان في حروبٍ بالمنطقة ضد العرب بالذات، فالتهمة جاهزة، الخفيف منها: العمالة لأميركا، والثقيل العمالة لإسرائيل! وهاتان التهمتان متجاورتان وجاهزتان للسُنة (وبعض الشيعة المعارضين) وللمسيحيين.
وإذا اعتبر الزعيم المعصوم أنّ الخلاف تجاوز حدَّه المحتمل بالنسبة له، فالسني متهم بأنه تكفيري، وأنه يريد إثارة الفتنة، مع أنّ الزعيم قال إنه خنقها إلى الأبد باحتلاله لبيروت عام 2008 (والذي سمّاه يوماً مجيداً!) لكنه عاد للتهديد بها في خطابه الأخير، ذاكراً العام 2008 بالذات، وكاد يذكر الاغتيالات أيضاً استرسالاً مع المزاج الرائق لولا ضيق الوقت!
وإذا لم يصدّق أحد (أقصد من المعارضين للحزب، أما المتحزّبون والأنصار فلا مطمع فيهم) كم هي التهم جاهزة ومتناقضة، والزعيم لوثوقه من عدم وجود معترض أو متشكّك من جماعته على الأقلّ مستعد لذكر الشيء ونقيضه في الخطاب الواحد بنفس الوثوق والاطمئنان.
قال الزعيم في خطابه الأخير: إنّ من أسباب اعتراضه على حكومة المسكين مصطفى أديب أنه يمكن أن يذهب إلى مفاوضات مع العدو! تصوّروا “حكومة المهمة” ومتاعبها إذا تشكّلت أكبر من متاعب تشرشل في الحرب الثانية، سيكون عندها من الرفاه ما يجعلها تنصرف للتفاوض مع إسرائيل! وموضع النكتة ليس الشكوك في كلّ الآخرين، بل إنّ المقاومة العظيمة التي ركبت على ظهورنا وظهور كلّ العرب على مدى ثلاثة عقود بحجة التحرير، هي التي أعلنت عن بدء التفاوض مع إسرائيل مطلع هذا الشهر الجاري بدون تحرير، بعد خطاب نصر الله الصمودي المعصوم بيومين! وما دمنا بصدد ذكر اتّساق خطاب الزعيم وعدم تناقضه أبداً، فلنذكر نقائض أُخرى في الخطاب ذاته. اتهم رؤساء الحكومة السابقين أنهم هم الذين عطّلوا تشكيل الحكومة، بخلاف ما قاله الرئيس الفرنسي.
إنما الأفظع أنه اتهم الرؤساء ومصطفى أديب (وقد صار سابقاً أيضاً إذ يبدو أنه لن يبقى لنا لاحقاً غير حسان دياب!) بأنهم تجاوزوا صلاحيات رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة! ويتبيّن بعد يومين فقط من كلام الزعيم المعصوم أنه هو الذي تجاوز أهم صلاحيات رئيس الجمهورية بالتفاوض مع “العدو” من أكثر من سنة، مع أنّ المفاوضات والمعاهدات مع الخارج هي من صلاحيات رئيس الجمهورية بنصّ الدستور! ولذلك علّق أحد الإعلاميين الأذكياء بالمثل العربي: رمتني بدائها وانسلّت! ولنذكر التناقض الثالث أو الرابع في خطاب الزعيم الأخير: هو أشاد بالمعارضة البحرانية التي تحدّت قرار الدولة بالسلام مع إسرائيل مع أنّ ذلك يهدّد حريات المعترضين لأنهم في البحرين! طيب أيها المعارضون البحرانيون والحوثيون والعراقيون والفلسطينيون.. والأفغان والباكستانيون.. إلى آخر قيادات الميليشيات التي جمعها الحزب المعصوم وزعيمه بالضاحية البائسة باعتبارها حركات تحرير: كم منكم سيعترض أو اعترض على بدء مفاوضاتٍ من جانب الحزب (وإيران) مع إسرائيل (التي ما عادت عدواً) وأرض لبنان لم تتحرّر ولن، فضلاً بالطبع عن عدم متابعة تحرير القدس، وإدانته للعرب لأنهم لم يفعلوا ذلك وهو من سيفعله!
لماذا أكرّر هذا كلّه، وقد صار واضحاً لدى الذين يتابعون ويعقلون ويتعقّلون. أما الآخرون فيعقلون، لكنهم لا يتابعون ولا يتعقّلون لأنهم “مؤمنون”!
لدى اللبنانيين مع الحزب المعصوم ثلاث قضايا أو مشكلات:
– الأولى استيلاؤه على قرار الدولة في الحرب والسلم، وتدخله الخطير في أمن الدول العربية واستقرارها مما أدى إلى عزلة لبنان وانكشافه
–والمشكلة الثانية استيلاؤه مع حلفائه – (سمّى الأمر أكاديمي ذكي هو صالح المشنوق بأنّه “تحالف الميليشيات مع المافيا” واختصارها م.م.) – على مرافق الدولة ومداخيلها والمرفأ والمطار والمعابر مع سورية، والمخدرات، وغسيل الأموال، وكبار الصرّافين، وسائر ملفات الجرائم المنظمة في آفاق العالم؛ بحيث أدى الفساد الفظيع إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي والمعيشي، وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج، ورفض العرب والعالم التعاون والمساعدة لعدم الثقة بالميليشيا والمافيا في لبنان
– والمشكلة الثالثة أنّ الحزب المعصوم وبعد هذا الخضوع من جانب الطبقة السياسية، وقدرته حتى على الدخول في مفاوضات مع “العدو الصهيوني” دونما اعتراض بالداخل ومع ترحيب بالخارج، يريد الآن، وقد تكون الصفقة الإقليمية قريبة أن يصطنع نظاماً جديداً تكون للشيعة فيه حصةٌ أكبر، الثلث مثلاً.
الشيعة ضحّوا في التحرير، وعانوا من حملات التشهير والعزل من أجل دعم المقاومة، ومن حقّهم الآن: الاستمتاع بالثروات الغازية والبترولية، كما من حقهم أن يكونوا ثلث النظام أو نصفه، وهم يملكون القدرة في نظر الزعيم المعصوم على تحقيق ذلك بالقوة! أَوَلم يهدّد الزعيم ويذكّر في خطابه الأخير بغزو بيروت والذي قاد لاتفاق الدوحة (الثلث المعطّل، والتقسيم العجيب للدوائر الانتخابية، ونشر سرايا المقاومة في كلّ مكان، وفي حالة الرفض يمكن دائماً إقامة حكومة اللون الواحد مثل العام 2011، والعام 2020)؟ وسيقول الخصوم بالداخل والخارج: لكنّ شيئاً من ذلك لن يكونَ مقبولاً الآن وسيؤدي إلى نزاعات داخلية، إنما الأهمّ أنّ المجتمع الدولي وقد صار حزب الله معتبراً تنظيماً إرهابياً في ثمانين دولة في العالم، لن يقبل ولن يساعد لبنان الذي يكاد يسقط الآن للافتقار إلى المساعدة، فكيف إذا انتظر سنةً أو سنتين حتى تجري الموافقة المرغمة على نظام الزعيم الجديد؟! وهنا تأتي الفكرة التي ما كانت في بال أحد لكنها متداولةٌ على ألسنة مراقبين كثيرين في الغرب والشرق. الدول العربية بالنسبة لقضية فلسطين قسمان: دول طَوق، ودول مساندة.
وقد أقامت دولتان من دول الطوق هما مصر والأردن سلاماً مع إسرائيل، وبقيت دول سورية ولبنان، إضافة إلى العراق.
وفي الدول الثلاث تسيطر الآن إيران أَوْ لها تأثير كبير: فماذا لو أقامت الفئات الحاكمة أو المسيطرة الآن في لبنان وسوريا على الأقل سلاماً مع إسرائيل يحقّق الأمن للدولة العبرية، ويُرضي بالطبع أميركا ولا يُغضب أيضاً روسيا، وتبقى تلك الأقليات متحكّمة في الدول باعتبارها صديقةً في وجه الأكثريات السنية التي فيها متطرّفون غير منضبطين، والتي يصعُبُ أن تحكم أو أن تحقق الاستقرار والراحة لبلدانها أو لإسرائيل!