تزاحمت الحوادث والأحداث على الساحة السنية في لبنان، وبالتوازي برزت مشاهد عديدة:
المشهد الأوّل: رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري يزور رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب في السراي متضامناً بعد أن اتهمه القاضي العدلي فادي صوّان بالتسبب، إهمالاً وسوء تصرّفٍ، في خراب المرفأ ومقتل مائتي لبناني، وخراب ثلث المدينة…إلخ. ورؤساء الحكومة السابقون والمفتي يتضامنون أيضاً مع دياب دفاعاً عن رئاسة الحكومة وموقعها وصلاحياتها. وبخاصة أنّ دياب وللمرة الأولى رفع صوته دفاعاً عن صلاحيات رئاسة الحكومة، رافضاً اتّهام القاضي العدلي له بهذه التهم الفظيعة والمفتراة.
المشهد الثاني: هو حكم المحكمة الدولية على سليم عياش الكادر في حزب الله بالمؤبد خمس مرات بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005، والقتل العمد لـ21 آخرين من الحراس والمارّة.. ودعوة سعد الحريري لتسليم القاتل إلى المحكمة الدولية.
دياب وللمرة الأولى رفع صوته دفاعاً عن صلاحيات رئاسة الحكومة، رافضاً اتّهام القاضي العدلي له بهذه التهم الفظيعة والمفتراة
المشهد الثالث: تقديم سعد الحريري تشكيلةً لحكومته العتيدة إلى رئيس الجمهورية، وإقدام رئيس الجمهورية على إعطائه تشكيلةً مُضادّة. مما دعا رؤساء الحكومة السابقين وإعلاميين وسياسيين إلى اتهام رئيس الجمهورية بمخالفة الدستور والإصرار على الاستمرار في تعطيل تأليف الحكومة، بينما تتردّى البلاد في مهاوي الانهيار.
المشهد الرابع: اجتماع المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بدار الفتوى يوم السبت في 12/12/2020 وإصداره بياناً عنيفاً ضدّ رئيس الجمهورية لمخالفته للدستور، وضدّ قرار القاضي العدلي تحويل حسّان دياب، رئيس حكومة تصريف الأعمال، إلى القضاء.
اجتماع الأحداث والمشهديات ليست مصادفات. فحزب الله الذي حكمت المحكمة الدولية على أحد كوادره: مصرٌّ على الإنكار والتنكّر للمحكمة الدولية، ومن باب رفع العتب يقول أنصاره أحياناً إنّ الأمين العام أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ إسرائيل هي التي قتلت رفيق الحريري لتسعير الفتنة!
وقبل أيام ادّعى حزب الله بشخص أحد نوابه (إبراهيم الموسوي) على النائب السابق فارس سعيد أمام القضاء باتّهامات عديدة، ومن أبرزها اتهامه الحزب المعصوم بقتل الرئيس رفيق الحريري! فهل يجرؤ القضاء اللبناني العظيم على حفظ الدعوى على فارس سعيد، استناداً إلى حكم المحكمة الدولية بأنّ كادراً في الحزب هو القاتل؟!
والقضاء اللبناني العظيم ذاته، لكنّه العدلي هذه المرة، قضى أربعة أشهرٍ ونيفاً في التحقيق في حدث المرفا الهائل، وقبض نتيجة التحقيقات على بضعة عشر موظفاً من المدنيين والعسكريين. وعندما وقع تحت وطأة ضغوط التأخير من أهل الضحايا ومن الرئيس رفع السقف لرفع المسؤولية عن نفسه فاتهم وزراء، واتهم رئيس الحكومة الحالي. لكنّه لم يجرؤ على السؤال: من استقدم حقاً السفينة التي أحضرت نترات الأمونيوم، ومن خزّنها في العنبر رقم 12، وبإشراف من كان العنبر طوال هذه المدّة، ومن سَحَبَ من العنبر آلاف الأطنان منها؟!
اجتماع الأحداث والمشهديات ليست مصادفات. فحزب الله الذي حكمت المحكمة الدولية على أحد كوادره: مصرٌّ على الإنكار والتنكّر للمحكمة الدولية، ومن باب رفع العتب يقول أنصاره أحياناً إنّ الأمين العام أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ إسرائيل هي التي قتلت رفيق الحريري لتسعير الفتنة!
بالطبع هو لا يجرؤ على ذلك، لأنّه في هذا الأمر تتساوى مخاوفه مع مخاوف الموظفين المحبوسين ومع الوزراء المتهمين: المعصوم هو الذي فعل ذلك كلَّه، بينما هؤلاء المساكين جميعاً غير معصومين!
وهناك “شعبةٌ” بل شُعَبٌ في القضاء اللبناني العظيم، انصرفت في الأسابيع الأخيرة وبتدبيرٍ ممن عنده التدبير إلى مكافحة الفساد على طريقتها، ساعة مع حاكم المصرف المركزي، وساعة مع قائد الجيش السابق وضباطه، وساعة من خلال وسائل الإعلام. لكنْ ولا شعبة من شُعَب القضاء النزيه فكّرت من خلال المدعي العام المطيع على الدوام باتهام الذين أنفقوا على الكهرباء 50 مليار دولار بين 2008 و2020، وما تزال معامل الكهرباء خربانة، والناس لا يستمتعون بالكهرباء غير ساعات معدودة! وإذا كان ضابطٌ سابقٌ عنده قِطَع من الأرض وفلوسٌ في البنك، يُتهم بالإثراء غير المشروع، فما القول في جبران باسيل ووزرائه: هل الفقر ضارِبْهم، بحيث لا ينال القضاء منه ومنهم؟ وكيف نال منه الأميركيون؟
العدالة الانتقائية ظلمٌ وليست عدلاً. القضاةُ خير مَنْ يعرف ذلك. ولولا أنّنا نعرف أولئك الذين يقومون بهذه الأعمال الشائنة، وهم الذين تعطلت التشكيلات القضائية من أجلهم – لعذرْناهم، وقلنا: إنّ العلةّ في الفساد السياسي السائد. لكننا نعرفُ الكثير من هؤلاء القضاة، والكثير عنهم وعمن يأمرهم ويوجههم، ونعرف المسؤول القضائي الأعلى عن هذه العشوائية والاستهداف في الوقت نفسه، فنحن في مصيبةٍ لا منجاة منها!
العدالة الانتقائية ظلمٌ وليست عدلاً. القضاةُ خير مَنْ يعرف ذلك. ولولا أنّنا نعرف أولئك الذين يقومون بهذه الأعمال الشائنة، وهم الذين تعطلت التشكيلات القضائية من أجلهم – لعذرْناهم، وقلنا: إنّ العلةّ في الفساد السياسي السائد
دعونا نتوجه إلى من كان يجب أن نتوجه إليه منذ البداية، وأعني فخامة الرئيس. فالسُنّة على وجه الخصوص، ثم الكثير من اللبنانيين، يشكون منه منذ العام 2016 من ثلاثة أمور:
الأول: إطلاق يد حزب الله وسلاحه في لبنان إلى حين نهاية أزمة الشرق الأوسط كما قال مراراً، بحيث ذابت الفوراق والفواصل بين الدولة والدويلة.
الثاني: إطلاق يد جبران باسيل وأعوانه في كل شيء، ومن الاتصالات إلى الكهرباء إلى العدل إلى التعيينات الدبلوماسية والإدارية وأمن الدولة والتشكيلات العسكرية، وإلى إفساد السياسة الخارجية للبنان كما أفسد كل شيءٍ آخر. وما جرؤ أحدٌ على المساس به إلاّ الأميركيون أخيراً، دون أن ينتهي ضرره وشره.
الثالث: المخالفة المستمرّة للدستور والخروج عليه علناً. وقد أخبرنا مستشاره ووزير العدل السابق سليم جريصاتي أنّ المطلوب تعديل الدستور بالممارسة! وقد شكا الجميع أول ما شكوا لسعد الحريري، كما شكوا لحسان دياب. وأقصى تذمّر الرئيس الحريري قوله: إنّ المشكلة في جبران باسيل فهو رئيس الظل! بيد أنّ أحداً في مواقع المسؤولية ما وقف في وجه الرئيس، لا سعد الحريري، ولا رئيس مجلس النواب. بل إنّ الرئيس حسان دياب كان دائم الدفاع عنه، واتهام ثلاثين سنةً من الفساد من قبله. ونحن يا رجل ما سألناك ولا سألنا الحريري وبري عن ذلك، بل سألناكم الحفاظ على صلاحياتكم الدستورية، في مواجهة التغوّل الهاجم. فالمُصابون ليس السُنّة بالدرجة الأولى، بل المؤسسات الدستورية وسائر أجهزة الدولة. فمن لا يعرف أنّ بدري ضاهر مدير الجمارك هو المسؤول الأوّل عن كل شيء، ثم يقال لنا الآن: بل فنيانوس وعلي حسن خليل. ثم إنّ رئيس الجمهورية نفسه قال إنه تلقّى تحذيراً في 20 تموز مما يمكن أن يحصل في المرفأ، وفي الوقت نفسه تلقّى التحذير حسان دياب؛ فإذا كان لا بد من اتهام المسؤول الأعلى، فلماذا يُتّهم دياب وليس الرئيس، وهو الذي يمون بالصلاحيات وبغيرها على الأجهزة العسكرية بالمرفأ وعلى بدري ضاهر وغيره، بينما لا يمون حسان دياب لا على غجر ولا على عكر!
نعم، ماذا فعل الرئيس عندما تلقى التحذير؟ ما عرضه حتّى على المجلس الأعلى، الذي يدعوه كل يوم، وآخر مرّة دعاه لتكليف الجيش بجمع زبالة المرفأ، فلماذا لم يطلب من المجلس الأعلى في أوّل جلسة بعد 20 تموز أن يُخرج زبالة نترات الأمونيوم من المرفأ؟!
المخالفة المستمرّة للدستور والخروج عليه علناً. وقد أخبرنا مستشاره ووزير العدل السابق سليم جريصاتي أنّ المطلوب تعديل الدستور بالممارسة! وقد شكا الجميع أول ما شكوا لسعد الحريري، كما شكوا لحسان دياب
يا ابن الحلال يا سعد، كنّا كلما قال لك أحدٌ: ما يفعله الرئيس لا يُطاق تقول: لكنّ الحكومة تتعطّل إن زعل الرئيس، فكيف سارت أعمال الحكومة قبل الانهيار وبعده؟ يا سلام على سلاسة الرئيس وصهره!
ويا دكتور حسان: لماذا سلّمتَ للرئيس بكل شيء قبل استقالتك وبعدها؟ ولماذا التهيتَ بمخاصمة السياسيين من أهل السُنّة، والانضمام إلى مرويّات العونيين وأحقادهم عن الثلاثين عاماً؟ عام 2006 قدم رئيس الحكومة مشروع قانون للمجيء بمؤسسة دولية للتدقيق في كل حسابات الدولة فرفض الجميع. لماذا اهتممت بكل شيء إلا بحفظ صلاحياتك وقد صار كل شيءٍ في عهدك أكثر عشوائية بكثير مما كان عليه الحال أيام الحريري!
آخِر بدَع الرئيس بالطبع تقديم تشكيلة حكومية بديلة للتشكيلة التي قدمها الرئيس سعد الحريري. وهذا أمرٌ لا يمكن قبوله بالطبع دستورياً. وكذلك هو غير صحيح تجاوُز القضاء لصلاحياته باتهام حسان دياب بالإجرام في المرفأ.
ولذلك أنا مع تضامُن السُنّة مع رئاسة الحكومة ومع الدستور. وإذا كان فارس سعيد يستطيع أن يطالب باستقالة رئيس الجمهورية، فلماذا لا يستطيع الرؤساء السُنّة المطالبة أيضاً باستقالة الرئيس استناداً إلى التالي:
– استخفافه بالدستور ومخالفته في كلّ آن.
– التدخّل في القضاء ومنعه من ممارسة عمله بشفافية، وتعطيل تشكيلاته.
– منع تشكيل حكومة جديدة والاستيلاء على صلاحيات رئيس الحكومة.
سيقال: لكنّ المسيحيين المصابين سينزعجون من هذه الحملة على القضاء. كما سينزعجون من تعطيل حملة الرئيس على الفساد!
أما “المستقبل” فرأى في بيان أن الطائف لا يُسمح بتغييره “لأنه حقّق المشاركة العادلة للجميع لأوّل مرّة”. أما الرابطة المارونية فدعت إلى إلغاء اتفاق الطائف! وأنا أقول للجميع: لا تطلبوا العدالة والدستورية والالتفات إلى وقف الانهيار وإعادة الإعمار، من عند من كان وكانوا هم العلّة الرئيسية في ذلك كله، بل وهم يحولون حتّى الآن دون تشكيل حكومةٍ للإنقاذ!
الطائفية مشكلةٌ ولن تكون حلاًّ. بل المطلوب الحلُّ الوطني، ولا حلّ وطنياً مع هذا العهد وزبانيته. مع هذا العهد تسود الطائفية ويسود الفساد، ويحدث الانهيار، وينتهي حكم القانون، ويتصدع لبنان!