لا يترك لبنان فرصة إلا ويثبت فيها سلوكه طريق الدولة المارقة. وكأن منطق العصابات يتمأسس. وبعيداً عن زجليات الدولة ومؤسساتها التي يتحفنا بها سياسيونا، وهي نكتة سمجة لا مكان لها في المعيار المنطقي والواقعي… الواقع مختلف: لبنان ليس دولة. ربما “قرطة عالم” على ما يصفهم زياد الرحباني، تارة يجتمعون وطوراً ينقسمون. وما بين العصابات والتعصب بالتأكيد خيط لغوي ما يربط بينهما. أما لبنانياً، فبلا شك أن المصطلحين لا ينفصلان، بل يتكاملان.
هذا المنطق يدفع بالمرتكب إلى التباهي باقترافاته. ولبنان هنا خير المعبّرين عن ذلك، كالتباهي بالاستعداد لتعليم الولايات المتحدة الأميركية كيفية إدارة شؤونها المالية من دون موازنة، وغيرها من ابتكارات تتدعي البطولات. وعندما يكون الفشل هو النتيجة يكون المبرر “ما خلونا نشتغل”. هذه العبارة ليست بسيطة، إنما تعبير عن مدى تجذر الهروب من أي مسؤولية في النفوس اللبنانية، ولا أسهل من تقاذف الاتهامات وتبادلها.
شركات ودول
كارلوس غصن ليس شخصاً، وليس مجرد فكرة تختصر اللبنانيين وتعبر عن “شطارتهم وفهلويتهم”. وهي بالمعنى اللبناني العميق، كل ما هو موارب والتفافي على القوانين والضوابط العامة. هذه الشطارة لا تقبل الانكسار ولا الانحسار، وتتمدد ليس في لبنان فقط، بل خارجه. والرجل ليس فكرة فقط، بما يمثله شخصه من تقاطعات لشركات ودول متداخلة، وهو المطلوب في اليابان والذي أوقف ومن ثم منع من السفر بانتظار انتهاء التحقيق معه، مطلوب في فرنسا أيضاً.
هُرّب الى لبنان بطريقة مافيوية. طبعاً فرنسا التي يحمل جنسيتها أيضاً لن تستقبله. لبنان ملجأه وملاذه الآمن، خصوصاً تحت جناحي عهد قوي يريد استعادة المنتشرين والاستثمار في خبراتهم، ويوفر لهم كل الدعم والحماية. والعهد لا يفرط بسيادته على أبنائه. وإذا ما اشتبه بهم يحاكمهم هو ولا يسمح بتسليمهم إلى حيث اقترفوا الجرم ووقعوا في شرور أعمالهم.
اللغز والبازار
طريقة تهريب غصن، مسألة خطرة جداً، خاصة على صعيد العلاقات الدولية، ولا يمكن لتهريبه أن يكون قد حصل من دون تدخل جهات دولية وأجهزة وشركات أمنية قوية وفاعلة. طبعاً لبنان يعلم تداعيات ذلك، ولا بد أن من أقدم على الخطوة ومن استقبل واحتضن، قد حسب حساب ذلك وكيفية التعاطي مع الأمر خارجياً. أما داخلياً، اللعبة ستكون واضحة، “نصرة المظلوم” وعدم السكوت عن الظلم وخرق اليابان للمعاهدات الدولية…إلخ.
لا بد من فك شيفرة اللغز، ومنذ فترة كانت هناك مفاوضات يابانية فرنسية لتبادل موقوفين، لكن لبنان لم يكن له علاقة بها، وقبل فترة زار أحد المسؤولين اليابانيين لبنان. وكان ملف غصن على طاولة البحث. لكن لم تشر المعطيات إلى حصول اتفاق حول قضيته. بل ترك اليابانيون الأمر للقضاء. ولكن الإقدام على هذه الخطوة يتخطى لبنان بالتأكيد. وتهريب غصن جزء من بازار يبيعه اللبنانيون لقوى خارجية ستتكشف لاحقاً. ولا بد من النظر والتدقيق بما يعنيه غصن لفرنسا، وغذا ما كان بها علاقة بالموضوع.
أضاليل العهد
لا شك أن التعاطي اللبناني مع قضية غصن منذ افتضاحها، يمثل وقاحة لا مثيل لها. هي نابعة من أعماق “النرجسية” اللبناني الذي يخوّن الجميع، ولا يعترف بالخطأ. يكذّب المجرّة ويقدّم نفسه القديس والإله، لتبلغ الصفاقة مدى بعيداً إلى حد اعتبار اعتقال غصن وزجه في السجن بمثابة استهداف لـ”الناجحين اللبنانيين”. هذه الدعاية والخلاصة خير تعبير عن تماثل المدافعين عن غصن، وركونهم إلى ما يدّعونه العهد القوي. قوته مبنية إما على أوهام، أو صورمصطنعة، أو على أضاليل ودعائيات ليس لها ما يثبتها. بل كل الوقائع تناقضها، تماما كمعادلة الليرة بخير فيما الدولار في طور التحليق.
مطلوب عالمياً
ستؤثر هذه العملية سلباً على لبنان وعلى كل علاقاته الدولية، لأن القضية مجموعة جرائم مرتكبة، فساد وهروب من العدالة، وتهرب ضريبي. وبالتالي، يكفي تهريب كارلوس غصن ليقدم لبنان الصورة المثالية عن مساعيه لمكافحة الفساد في الداخل، وأي رسالة يقدمها لبنان للمجتمع الدولي. خروج غصن في مؤتمر صحافي مرتقب، يعني انه سيصبح مطلوباً عالمياً فاراً من العدالة. أسئلة كثيرة تطرح اذا ما كانت اليابان ستصدر مذكرة جلب عبر الانتربول لغصن، وكيف سيتعاطى لبنان معها حينها.