إستهل العام 2019 أيامه بولادة حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية في عهد الرئيس ميشال عون، والتي أتعب باسيل حليفه الشيعي، “حزب الله”، قبل أن يتفاهما على اسم الوزير السنيّ الممثل للقاء التشاوري. تنفّس الحريري الصعداء معتقداً أنّ ما عجز عن فعله في حكومة العهد الأولى، سيحققه في الثانية.
رئيس “التيار الوطني الحر” أبى إلّا أن يدشّن العام، بإطلاق صفارة فائض قوته الحكومية: 10 وزراء يحيطون به في مؤتمر صحافي أوحى خلاله وكأنّها ولايته الأخيرة في قصر بسترس معززاً هواجس كثيرين بأنّ معركته لرئاسة الجمهورية انطلقت لتوّها، مؤكداً أنّه ينتظر الساعة ليرتاح ويريحكم، معلناً وضع استقالات وزرائه في عهدة رئيس الجمهورية لوضع أنفسهم أمام المحاسبة الداخلية في خطوة لم يسبقه إليها أحد.
كان عاماً مليئاً بغرام وانتقام بين ركنيّ التسوية الرئاسية: الحريري وباسيل. جولات من الانسجام والمعارك المكشوفة على حلبة الحكومة. “سطوة” وزير الخارجية أخرجت رئيس الحكومة مرات عدة “من ثيابه”، ودفعته في نهاية العام إلى “تقريش” النقمة الشعبية التي قامت بوجه باسيل، للثأر لسنوات التسوية الثلاث.
إفتعال العراضات
وكما بدأه، أنهى باسيل العام على ضجّة مثارة من حوله: حتى اللحظة، لا يزال متهماً بتركيب “دينة” حكومة حسان دياب كيفما يريد حتى لو دفعت به تطورات الشارع إلى الصفوف الخلفية، مطلقاً تهديداً هو الأغرب في تاريخ الديموقراطيات: حزب رئيس الجمهورية في المعارضة.
كان العام 2019 استثنائياً بالنسبة لباسيل. كان يدرك تماماً أنّ اصراره على افتعال العراضات، سواء في خطاباته وتغريداته المثيرة للجدل أو في حراكه الاستفزازي قد يخلق له العداوات، ولكن مشهدية 17 تشرين الأول وما بعدها، لم تخطر في بال أحد.
لم يكترث يوماً للغبار الذي خلفه حوله ووراءه. كان مقتنعاً بأنّ ما يقوم به سيكون بمثابة trend سرعان ما سيتمثّل به الآخرون، فينزلون عن “عروشهم” قليلاً لتفقد رعاياهم في المناطق. كذلك كان مقتنعاً بأنّ تجربة الزعيم الذي يُزار ولا يزور لم يعد لها “خبز”. ولذا اختار أسلوباً مختلفاً، سرعان ما تحوّل إلى فخّ وقع فيه في لحظة انقلاب المزاج الشعبي.
ومع ذلك لا يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ الحملة التي تعرّض لها مع انطلاق الحراك الشعبي، بريئة بالمطلق. صحيح أنّ شخصيته تثير الجدل، لكن “شيطنة” الرجل وحده في تلك اللحظة التسونامية، كان ممنهجاً ومنظماً، وساعدته بذلك “تركيبة” الرجل النافرة والمنفّرة، والتي أدخلته كتاب التاريخ من باب أكثر السياسيين تعرّضاً للشتم.
فلماذا كل هذا الحقد على باسيل؟ وما هي خطاياه؟
لا يتأخر العونيون في الإجابة على أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” ليس من قماشة السياسيين التقليديين. فالرجل الذي لا ينام يسعى لأن لا يمرّ مرور الكرام في وثائق كتاب التاريخ. لا جدل حول نشاطه، قدرته على المتابعة المكثفة لصغائر الأمور قبل الكبيرة منها. ولا يمكن تجاوز أو إنكار المجهود كما الضغط الذي مارسه لوضع قانون انتخاب جديد أو تطوير ملف النفط وبناء السدود، وتلك مسائل بالغة الأهمية سواء على المستوى المسيحي أو الوطني. لكن “التيار الوطني الحر” فشل في تسويق انجازاته، كما فشل في تقديم صورة محببة عن رئيسه. وهذه أكثر العلل الذي جعلت باسيل يدفع الثمن من “جيبه”.
في المقابل، ثمة خطأ جسيم وقع فيه باسيل. كيفية رسم هويته السياسية. إعتقد رئيس “التيار الوطني الحر” أنّ الجمع بين ميشال عون وبشير الجميل سيجعل منه زعيماً جماهيرياً. لكنّ الخلط بين الشخصيتين أدى الى تكوين شخصية هجينة. فالمسيحيون لا يحتاجون في هذه اللحظة إلى شخص يقتبس بشير ويبعث فيهم القلق ليمنحهم الأمل، ولا هو ميشال عون بزعامته التاريخية التي تجعل من وضع خطّ فاصل بين المرحلة العونية وتلك الباسيلية، مهمة صعبة جداً. فحتى اللحظة لا يزال الرأي العام يتعامل مع العماد عون بوصفه زعيم “التيار”، حتى لو دخل باسيل في العهد الثاني من رئاسته للحزب. ولذا سقط جبران في التشوّه الخلقي.
لم يكن رئيس “التيار” بحاجة إلى ابقاء المسيحيين في حالة توتر مع باقي المكونات السياسية والطائفية. لم يكن من داع أبداً إلى إشعال الجبهات صبيحة كل يوم أحد عندما يقرر أن يزور إحدى المناطق. هو أصلاً قرر القيام بجولات مناطقية للقاء محازبيه ومناصريه. وبالتالي لا ضرورة لكل هذا الاستنفار الذي لم يجلب له إلا الخصومات في حين أنّ شدّ العصب المطلوب من جولات الملاكمة هذه، لا استحقاق لصرفها.
لا بل العكس تماماً. ثمة وجهة نظر مخالفة تقول إنّ باسيل لا يمكن له أن يتكل فقط على دعم “حزب الله” له لضمان تقدّمه في السباق الرئاسي، وعليه بالتالي نسج شبكة علاقات داخلية تجعله مرشحاً مقبولاً، حتى لو رفع شعارات صدامية وعليه سدّ كل الثغرات التي قد تسمح للخصوم بالنفاذ منها والحؤول دون استغلالهم لحبل التناقضات. الأمثلة كثيرة والنماذج حاضرة. رئيس حزب “القوات” سمير جعجع يخوض معركة مكافحة الفساد لكنه شاطر في ترك فسحة من العلاقة الطيبة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. وبالتالي يستحق الأمر أن يحاول باسيل السير على حافة علاقاته مع الآخرين، حتى لو لم يكونوا من صنف الحلفاء والأصدقاء. وما المانع مثلاً من إدارة علاقة جيدة مع تيمور جنبلاط؟
يقول عارفوه، إنّ باسيل يعرف جيداً أنّ الرئاسة لا تؤكل من كتف كل هذه المراكمة. يدرك جيداً أنّ الظروف الاقليمية هي الناخب الأول التي ستنقل أحد الموارنة إلى قصر بعبدا في لحظة تقاطع دولي لا يعرف أيّ من المتسابقين على من ستحل بركتها.الرئيس المقبل… إذا
ومع ذلك، ثمة من يعتبر أنّ باسيل سيكون الرئيس المقبل للجمهورية إذا ما استمر الصراع الشيعي السني في المنطقة، ولكن في حال السيناريو المعاكس، فستتراجع حظوظه كثيراً بسبب سلوكه الصدامي. هو إذاً يلعبها صولد وهنا المخاطرة.
بالنسبة لمؤيديه. العلّة لا تكمن في طبيعة العلاقة مع “حزب الله”. على عكس الغبار الكثيف الذي يلفّ هذه العلاقة بين الحين والآخر، فهي أكثر من متينة وممتازة. ويؤكدون أنّ الحزب مقتنع بأنّ باسيل يدفع ثمن خياره السياسي، ولذا هو من فرض معادلة “سعد وجبران”.
بالنسبة لهؤلاء، العلة ليست أيضاً في تفاني باسيل في العمل أو سعيه لتحقيق الانجازات والمشاريع. وإنما في شخصيته “القاسية”. في ادعائه مثلاً الديموقراطية والتصرف بعكسها حين يحشر في الزاوية. في الإفراط بتقديم نفسه بصورة الزعيم “الموديرن” الذي يلعب كرة القدم مع محازبيه، الذي يقوم برياضة الهايكينغ كل يوم أحد، الذي يساعد في تحضير المناقيش في الجلسات القروية… وكلها لقطات اعتقد أنها تقرّبه من الناس، لكنها صارت مستهلكة فضربت صورته.
أثبت العام 2019 أنّ باسيل يهتم بأمور كثيرة لكن المطلوب في هذه اللحظة واحد: الاقتناع بضرورة التراجع قليلاً كي تعبر العاصفة وتهدأ الرياح، مراجعة سلوكه خلال السنوات الماضية وتحديداً منذ وصول العماد إلى سدّة الرئاسة، توسيع دائرة المشاركة من حوله والاستماع أكثر إلى نصائح مقربين غير انتفاعيين، تعزيز صفوفه الداخلية الحزبية، إعادة صناعة صورته الإعلامية واعتماد “الموديل” الذي يناسب شخصيته وهدفه، مراجعة سلوكه مع حلفائه ونوابه وقياديي حزبه. فهو يحتكر كل شيء، الواجهة والمنبر والحضور والقرار ولهذا تلقى “الصفعة” دون غيره من العونيين. يتصرّف كزعيم ومختار في وقت واحد. يدير الشؤون الاستراتيجية وأبسط القضايا والمسائل. يختزل كل الأدوار في شخصه. وهنا واحد من مكامن الخلل.