فاجأتهم الموجة الثانية، فيما هم يحاولون دفن الأولى

15 يناير 2020
فاجأتهم الموجة الثانية، فيما هم يحاولون دفن الأولى
beirut News

تحت عنوان فليحلم لبنانيو الانتفاضة باختفاء سلاطين المحميات والعداوات كتب محمد أبي أسمر في المدن ظنوا أنها تلاشت وكادت تنطفئ، ففركوا أيديهم متربّصين. والشاشات التي افتقدتهم شهرين استعادتهم لتملأ فراغها بهذرهم اليومي. ولكن ها هي موجتها الثانية، أمس الثلاثاء 14 كانون الثاني الجاري، تقتلعهم ثانية عن الشاشات.

وكانت في خفوتها وتلاشيها في نهايات موجتها الأولى، قد طاردت بعضهم في المطاعم، وحرمتهم من استرخائهم في الأمسيات. منهم من قال إنه لا يخرج إلى المطاعم. آخرون انصرفوا إلى مداواة الرضوض التي أصابت صورهم لدى مواليهم وجمهورهم. أحدهم، فيما تطرده شابة جريئة من مطعم، راح يردد مدافعاً عن نفسه قائلاً: أنا لست فاسداً، أنا محام طوال 25 سنة. وقال شاب ورث النيابة عن والده إنه يتفهم غضبهم على النواب. أما الحالم بالقصر الجمهوري، فمكث أمام الكاميرا أربع ساعات ليثبت براءته من الهوس السلطوي.

خطيب الشاشة الأول استنزفته فاجعته بأمير حربه، فراح يهدّد ويتوعد بحرب تحرير شاملة في المنطقة. رئيس الوزراء “المخلوع” ظهرت له صورة سانداً ظهره إلى عمود على رصيف في مدينة أوروبية، فقال البعض أنه استراح من وطأة تسوية كادت ترميه إلى الحضيض. صاحب المحميّة الخاوية داخل ساحات وشوارع التظاهرات والاعتصام، عاد إلى لقائه الأسبوعي بمتنفذيه الصّغار في مقره – المحميّة الثانية. سعادة الحاكم المالي ظهر على الشاشة أخيراً، فقال إن الأزمة عابرة، وطلب صلاحيات استثنائية.

ظنوا أنها انتهت. وظنت الشاشات أيضاً أنها انتهت، فراحت تستعيدهم لتملأ فراغها وخواءها المعتادين، فإذا بالموجة الثانية تنبعث قوية وعاصفة.

مشاهد الموجة الثانية تكاثرت واتسعت في المناطق المسيحية. جسر الرينغ هو قطب الحركة في بيروت. تقاطع الشيفروليه في فرن الشباك قطب الإطارات المشتعلة على الدوام. جونيه وجبيل لا تقفان على الحياد هذه المرة. مدخل الشارع المؤدي إلى المحمية الخاوية، يصير محطة تظاهر أساسية. وجموع من أهالي تلة الخياط حول منزل اكتشف ساكنه أنه لا يعلم في أي ملهاة زجوه. على الأوتوستراد أمام المدينة الرياضية كرٌّ وفرٌّ في قطع الطريق. مصرف لبنان في أول شارع الحمراء محطة أساسية للغضب المتواصل المتمدد إلى الشارع كله.

ظنوا أنها خمدت: أسياد المآرب والعداوات، سلاطين المحاصصات. شكروا البرد وعواصف المطر وأعياد الميلاد ورأس السنة والمصارف، التي أعانتهم على تقطيع أوصال احتجاجات دامت مديداً، فقالوا هيا إلى مداواة الرضوض، ففاجأتهم الموجة الثانية. ماذا يسعهم أن يفعلوا الآن؟

أمس استدعى رئيسهم السلك الدبلوماسي، فراح يهذر أمام سفراء العالم عن النفط والغاز والفساد، داعياً الناس إلى محاربة الفساد في بيوتهم لإعانته على تخليصهم من محمياته في إدارة الدولة. لا أحد يدري ما صلة البيوت بالفساد الحكومي، سوى من ربّى بناته وصهره على الطهارة البيتيّة والتقديس والابتهالات للوصول إلى القصر الجمهوري على جثة الجمهورية.

ظنوا أنها انتهت، واستراحوا. فركوا أيديهم فرحين، فيما هم يشاهدون على الشاشات طوابير القحط المالي والفقر وخيم المنكوبين في معرض رشيد كرامي الطرابلسي. ربما أخذهم الحنين إلى نظام الأسد في ثمانينات القرن الماضي، نظام تقنين كل شيئ، واستحالة الحصول على الغذاء إلا بقسائم الإعاشة الاشتراكية المزعومة. بعض سلاطينهم نظمتْ أجهزتُه حملاتٍ إعاشة للمفقرين. مغرمون بمشاهد الإعالة والإعاشة التي تجعل مواليهم يزدادون ولاءً وقهراً وطاعة. رئيسهم ورهطه مغرمون بأن يزداد الحقد على اللاجئين، فقال للسلك الدبلوماسي الدولي إن اللاجئين علّة انهيار بلده.

الموجة الثانية في أولها “أسبوع الغضب”. ظنوا أن الأولى انتهت. خرجوا من العزلة، ومطّوا أعناقهم وأطلقوا ألسنتهم مرتزقتهم على الشاشات. وأخذوا يتزاورون ويبتسمون في جلساتهم التي ألفوها وألفوا تصريحاتهم البلهاء في ختامها.

فقدوا واحداً منهم، ذاك الذي اقتصرت الموجة الأولى على إسقاطه وحده، فاختفى وأخذ يدعوه حارس الخواء إلى مزاولة تصريف الأعمال. وكان الخطيب التلفزيوني الأول يتشبث به لئلا يهرب وحده وينجو بجلده. وها هو المرابط في منصبه أبدياً يكاد يقول: ما أحلى الرجوع إليه.

وفاجأتهم الموجة الثانية، فيما هم يحاولون دفن الأولى.

غداً يعودون إلى عزلاتهم على الأرجح. هم في لبنان كثيرون. عددهم بعدد الجماعات والمحميات والولاءات والرهوط والأجهزة. منها الموروث عن الحروب، ومنها صنعها بعضهم بعرق جبينه الملوث كمياه الليطاني. وأشدها وطأة تلك التي تمتلك جيشاً صار يقاتل بإمرة سيد واحد، بعدما كان في إمرة سيدين.

محميات أهلية، وإقطاعات موروثة عن آباء قتلى أو اغتيلوا. ومنهم من ربّاه جده طفلاً بعدما اغتيل والده، لئلا تختفي الزعامة العائلية قرب الأرز الأشم. ومنهم من جلس قرب النهر ليبصر جثث من يريد الثأر منهم طافية على صفحته. ومنهم من أفنى جيلين من “المناضلين” ليصنع نسلاً سياسياً سلطوياً من رجال الأعمال والوصوليين المتسلقين. ومنهم من اعتذر من أمه التي أوصته أن شرفه الوحيد هو حبه الوطن والقصر الجمهوري. ومعظمهم تدرب على الذل والمهانة في مدرسة الأسد الأب والإبن.

ألا يحق للبنانيي الموجة الثانية في خروجهم على هؤلاء جميعاً أن يحلموا في اختفائهم: حسن نصرالله، وليد جنبلاط، سليمان فرنجية، ميشال عون، جبران باسيل، سمير جعجع، نبيه بري، سعد الحريري، وطلال ارسلان، وسواهم من مواليهم في الصف الثاني والثالث؟