لبنان فلسطين والعرب
قبل ذلك، كانت المنطقة المحيطة بالسفارة الكويتية حالياً (بئر حسن) تحوي مدرج مطار صغير لطائرات صغيرة الحجم. وكان إعمار المطار الجديد في خالدة، نتيجة أولية للاستعاضة عن مطار اللد. وتزامناً، كان العمل مكثفاً لتوسيع مرفأ بيروت. فتنامى دوره واتسع على حساب مرفأ حيفا.
لقد عرف لبنان كيف يستفيد من النكبة الفلسطينية، والعداء العربي لإسرائيل. فعزز وضعه، وصار مقراً ومستقراً ومنطلقاً للرساميل العربية ومعابر الترانزيت. وبدأ عصر الازدهار اللبناني، الذي تعزز تشريعياً بقوانين مالية أبرزها قانون السرية المصرفية والحسابات المشتركة. وفي الخمسينيات والستينات استقطب لبنان الرساميل العربية الهاربة من التأميمات.
ازدهار وصراع محاور
وبين ولادة لبنان الكبير في العام 1920 والعام 1975، برز العصر الذهبي للدور اللبناني في الربع الثالث من القرن العشرين (1950 – 1975). لكن لبنان بين نكبة 48 ونكسة الـ67، عرف تحولات سياسية واستراتيجية تمثّلت بصراع محاور تجلى معارك وتسويات سياسية: من حلف بغداد إلى ثورة 1958، ووصولاً إلى إتفاق القاهرة سنة 1969.
والاتفاق ذاك، كرس لبنان وأخضعه على نحو كامل إلى صراع المحاور الذي انفجر حرباً أهلية – إقليمية ملبننة في العام 1975. وبدأ عصر الانهيار الذي لم يتوقف إلا بتسوية دولية – إقليمية كبرى في العام 1990. وعاد الانهيار وصراع المحاور بقوة بعد اغتيال رفيق الحريري في العام 2005، ولا يزال يمر لبنان في مخاضاتهما الشرسة والعسيرة.
استنزاف وخوف من الزوال
بين 1990 و2005، استعاد لبنان بعضاً من عصره الذهبي الذي كان فقده طوال 15 سنة من الحروب على أرضه. ومرت 15 سنة أخرى استنزف فيها ما حصّله في الـ15 سنة من ازدهاره النسبي.
وكانت سنة 2020 سنة الفصل: تجذر صراع المحاور والثقافات والهويات السياسية والمالية والاقتصادية عميقاً، على وقع أكبر انهيار مالي في تاريخ البلد الصغير. وها الخوف يبلغ أشده من زوال نموذجه القائم والمعروف، أي زوال لبنان.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، كما يقال، اجتمعت كل عوامل الانهيار في سنة الـ2020، في المئوية الأولى لإنشاء هذا الكيان الذي رعته فرنسا.
وها هي تعود مجدداً في محاولة يائسة لرعايته على وقع ارتفاع منسوب الصراع الجيوستراتيجي في المنطقة.
منظومة كورونا السياسية
وافتتحت سنة 2020 بثورة اللبنانيين الطامحين لبناء دولة مدنية عصرية تُحترم فيها حقوقهم وتلزمهم بواجباتهم. لكن أهل النظام المتجدد كانوا أقوى من هذه الطموحات.
وكان الصراع السياسي في المنطقة أمضى من الآمال والأحلام، التي تبددت قبل بزوغها على وقائع الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي والثقافي.
الثوار الطامحون خرجوا عن طاعة الثورة بحثاً عن أحلام تتحقق خارج هذا الاشتعال، وخارج الصراعات التي استدرجهم إليها نظام يعرف أهله وسدنته جيداً كيف يحولون أي حلم إلى كابوس طائفي ومذهبي وسياسي.
فسياسة المنظومة اللبنانية وضعت لبنان في الحَجْر، مجرّداً مما كان لديه من علاقات وانفتاح. لم يعد اللبناني مرغوباً به في الخارج (مثل أيام الحروب فيه وعليه).
فكانت كورونا السياسية أسوأ بكثير من الكورونا الطبية.
لبنان الأسد مجدداً
وانهارت الليرة اللبنانية، والنظام المصرفي الذي كان يغني البلد ويتغنى به. ففقد كل أشكال الثقة، وهو قابل لفقدان مقومات البقاء، وصولاً إلى البحث في ما يسمى مجلس النقد، الذي سيحيل البلاد إلى مصير مشابه لمصير سوريا الأسد: يُمنع على أبنائها رؤية الدولار والتداول به إلا برزم من الإجراءات والتوقيعات والأذونات.
وصودرت ودائع اللبنانيين، ووصل القطاع المصرفي إلى درك لم يعد من إمكان لقيامته. وبسقوط النظام المصرفي تأثرت كل مقومات البلد وقطاعاته: التعليم أصبح خراباً، ولم يعد لبنان مدرسة المنطقة وجامعته.
القطاع الصحي ينازع على وقع أزمة كورونا والدولار وهجرة العاملين في هذا القطاع. ولم يعد لبنان مستشفى الشرق. وقطاع الخدمات والسياحة يعيش أسوأ أيامه، مالياً وكورونياً.
ذكرى ومصائب
وهذا كله حوّل لبنان مجرد ذكرى. ومن غير المعروف أي لبنان سيكون في ما بعد.
ومن مصائب العام 2020: انفجار مرفأ بيروت، الذي قضى على ما تبقى من لبنان، فدمّر واجهة بيروت البحرية، وأصبح البلد محاصراً برياً وبحرياً، وجوياً ضمناً، في موازاة الحصار المالي والاقتصادي والسياسي.
وقضى الانفجار على أي حلم بالنهوض والعودة إلى الحياة.
واللبنانيون اليوم متعلقون بأوهام العجائب، أو بحبال الهواء التي جاءت بمساعدات عينية/إعاشة دولية لم تؤد إلى تغيير الوقائع على الأرض.
وأعاد الانفجار الكبير الاهتمام الفرنسي المركّز بلبنان صنيعة فرنسا. جاء إيمانويل ماكرون في محاولة لاستعادة الدور والتاريخ والرمزية، لكنه فشل أو أُفشل.
وقد يبقى يحاول طالما أن لبنان يحاول الاستمرار في هزيع التنفس.
وتجلّت الغربة أو الغرابة في هذا النبذ الذي أحاق بلبنان من الجميع. فهناك من فقد الرغبة ويئس من الاهتمام به.
وهناك من يشدد ضغوطه لإعادته إلى بيت الطاعة الدولي، بعيداً من المحور الإيراني الذي تمكّن منه إلى حدّ الاختناق. وهو اليوم في طريقه المعبدة نحو مصير العراق وسوريا واليمن، بلدان المحور الإيراني وساحاته.
أما الدور الذي كان له منذ الخمسينيات، فقد صادرته إسرائيل على وقع اتفاقيات التطبيع والسلام والأحلاف والمشاريع المشتركة التي حصلت أخيراً: اتفاقات صحية وجوية وتقنية وتجارية وسياحية وثقافية كثيرة، تذهب بما تبقى من مقومات لبنان.
وأبرز الدلائل تلك المستشفيات الإسرائيلية التي ستبنى في دول عربية، وخط سكة الحجاز، ومرفأ حيفا الذي بدأت فيه خطة توسيع تمتد على سنوات عشر مقبلة.
إيران أو التطبيع؟
لم يتبق لدى لبنان غير المطار، بعد سحق نفوس أبنائه وإرادتهم التي لم تجتمع إلا سلبياً، سوى في أوقات عابرة. وأحلامهم المستنزفة المجهضة، تجعل وجهتهم البحث عمن يستقبلهم كتائهين من بلدهم.
وحتى المطار أصبح مهدداً، ليس من إسرائيل فحسب، بل بفعل إجراءات خارجية عديدة تتعلق بفقدان معايير سلامة الطيران.
هذا كله يحصل على وقع صراع سياسي ودستوري على غرار داحس والغبراء. وهو قابل للإطاحة بما تبقى من البلد ودستوره وصيغته السياسية.
وسرّع انفجار المرفأ بعقد جلسات تفاوض لترسيم الحدود، وما لبثت أن توقفت في ديار حروب البسوس السياسية. ولا بد من انتظار تطور جديد لتعود من جديد بمنحى أكثر جدية.
والمفاوضات تلك مفصلية في دور لبنان ووضعه أمام خيارين: إما أن يبقى محمية إيرانية، أي منعدم الحال وفي انهيار مستمر.
وإما أن يخرج من المحور الإيراني، ليذهب في اتجاه الولايات المتحدة وما تريد فرضه من تطبيع مع إسرائيل. ويستحيل على لبنان الجمع بين هذين الخيارين. وربما عليه انتظار توافق إيران واميركا لتظهر وجهته الجديدة.
لكن هذا سيؤدي حكماً إلى تغيير جذري في بنيته وتركيبة نظامه على وقع الصراعات المستمرة على الصلاحيات، ومناطق النفوذ. وهي دائرة اليوم على كيفية تشكيل الحكومة وتوزيع الحصص فيها.
وقد يطال التغيير أيضاً كيفية إعادة تكوين السلطة، مركزياً أو لا مركزياً فيدرالياً، أو الانتقال من المناصفة إلى المثالثة.
إنها سنة الأفول الكبير.