ما يعيشه لبنان حاليا هو بمثابة انتصار كبير لـ”حزب الله” على البلد كلّه، بكلّ قطاعاته ومؤسساته وسلطاته.
إنّه انتصار توّج بإلغاء دور رئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء اللذين هما في قلب المعادلة السياسية اللبنانية، بل يشكلان جوهرها في ضوء دستور الطائف.
استطاع الحزب إحداث فراغ في السلطة التنفيذية المتمثلة في موقع رئيس الوزراء ومجلس الوزراء مجتمعاً. لم يعد في لبنان من وجود لرئيس مجلس الوزراء ولا لمجلس الوزراء نفسه.
ليس ما يشير إلى أنّ حكومة يمكن أن تتشكّل قريباً برئاسة سعد الحريري. يمكن أن ينتهي عهد ميشال عون، وهو في الواقع “عهد حزب الله”، من دون حكومة.
يتجه البلد إلى مزيد من الفراغ مستقبلاً، إلى فراغ في الفراغ، نظراً إلى غياب أي معطيات تشير إلى إمكان انتخاب رئيس جديد للجمهورية لدى انتهاء ولاية الرئيس الحالي في 31 تشرين الأوّل 2022.
ما الذي سيفعله “حزب الله” بانتصاره الساحق والماحق على لبنان؟
هو انتصار يمكن إدراجه في سياق سياسة طويلة المدى مدروسة بدقّة شديدة وبأدقّ التفاصيل.
تقوم هذه السياسة على فكرة أنّ الانتصار على لبنان هو الانتصار الحقيقي وأنّ “المقاومة” و”الممانعة” ليسا سوى غطاء لتحقيق مثل هذا الانتصار الذي يبقى من دون أفق باستثناء تحويل لبنان قاعدة صواريخ إيرانية وبيروت مدينة إيرانية على البحر المتوسّط.
لمن سيهدي “حزب الله” انتصاره على لبنان؟ على الأصحّ كيف يصرف هذا الانتصار على أرض الواقع؟
في الطريق إلى تحقيق الانتصار على لبنان، كانت محطات كثيرة. تبقى أهمّ المحطّات عملية اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وسلسلة الجرائم التي تلتها، بدءًا بقتل سمير قصير وانتهاء بالتخلّص من الدكتور محمّد شطح بكل ما كان يرمز إليه.
كذلك، في الطريق إلى تحقيق هذا الانتصار، كانت حرب صيف 2006 التي أعلن بعدها الحزب عن تحقيق “النصر الالهي”.
يمكن اعتبار هذا النصر – الذي مهّد للاعتصام الطويل في وسط بيروت وحرب مخيّم نهر البارد ثم غزوة بيروت والجبل في أيّار 2008 – جسراً إلى بدء تغيير النظام السياسي عبر مؤتمر الدوحة.
كرّس هذا المؤتمر مبدأ الثلث المعطّل الذي لا وجود له في أي دولة تدّعي الحدّ الأدنى من الديموقراطية.
لم يحصل شيء بالصدفة في لبنان، بما في ذلك منع انتخاب رئيس للجمهورية طوال سنتين ونصف سنة من أجل إيصال ميشال عون إلى قصر بعبدا ثم إقرار قانون عجيب غريب للانتخابات يسمح لـ”حزب الله” بالحصول في كلّ وقت على أكثرية في مجلس النوّاب.
هذا القانون سبب كافٍ لاعتبار أيّ كلام عن انتخابات نيابية مبكرة في غير محلّه ولا معنى له نظرا إلى أنّ أي انتخابات بموجبه لا يمكن أن تغيّر في الواقع. هذا الواقع المتمثّل في أنّ لبنان رهينة لدى “حزب الله” وسلاحه، أي لدى ايران.
يتميّز لبنان الرهينة بتحوله إلى دولة فاشلة.
فشل حتّى في التقاط اليد الفرنسية التي مدّت له مع انعقاد مؤتمر “سيدر” في نيسان 2018 وبعد تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020. ليس سرّاً أنّ البلد فقد كلّ مقومات وجوده، من المصرف، إلى الجامعة والمدرسة، إلى المستشفى والفندق والمطعم.
رفع “حزب الله” شعار “ليسقط حكم المصرف”.
كانت النتيجة سقوط المصارف كلّها ومعها النظام المصرفي الذي شكّل في السنوات العشر الأخيرة العمود الفقري للاقتصاد اللبناني.
ليس ما يدعو إلى الدخول في تفاصيل المأساة اللبنانية ذات الجوانب المتعددة التي يختزلها انتصار ثقافة الموت علي ثقافة الحياة.
لعلّ مأساة المآسي تلك المبالاة التي ظهرت على جمهور “حزب الله” بعد تفجير مرفأ بيروت والدمار الذي لحق بأحياء في الاشرفية والرميل والمدوّر والجمّيزة ومار مخايل…
ماذا سيفعل “حزب الله” بدولة فاشلة اسمها لبنان استطاع الانتصار عليها بالضربة القاضية؟
لا جواب عن هذا السؤال، أقلّه في الوقت الحاضر، لكن ما يمكن قوله إنّ لبنان سقط. أخطر ما في سقوطه أن لا مشروع بديلاً منذ العام 2005. ما سقط مع تفجير رفيق الحريري كان البلد بكامله، بمؤسساته والفكرة التي كانت علّة وجوده، وهي فكرة تقوم على النجاح الاقتصادي والازدهار وعلى التداول السلمي للسلطة والانفتاح على المنطقة العربيّة والعالم.
إذا كان الفشل سياسة، يكون “حزب الله” حقق هدفه ليس في لبنان وحده، بل في سوريا أيضاً حيث تدخّل عسكرياً ورمى بكل ثقله وحيث صار نظام بشّار الأسد يبحث، عن طريق روسيا، عن كيفية التخلّص من إيران من أجل ضمان بقائه في دمشق.
مثلما لم تحمِ الصواريخ الإيرانية النظام الاقلّوي السوري، فهي لم تحمِ لبنان ولن تحميه في يوم من الأيّام.
كلّ ما في الأمر أنّ سياسة الهدم ونشر البؤس والتلطي بالشعارات الرنّانة، التي عانى منها لبنان طويلاً والتي أدّت إلى ما أدّت إليه، أوصلت الوطن الصغير الى الفراغ.
ستنقله هذه السياسة إلى ما هو أسوأ من الفراغ.
ستنقله إلى فراغ في الفراغ في الأشهر القليلة المقبلة.
ثمة ثمن غالٍ سيدفعه لبنان بعدما قبل الماروني ميشال عون أن يكون رئيساً للجمهورية بفضل سلاح “حزب اللّه” وقبول صهره جبران باسيل، في مرحلة معيّنة، أن يكون صوت إيران في مجلس جامعة الدول العربيّة!