كيف “بلغصَ” باسيل في أحداث طرابلس ليل الأربعاء؟

29 يناير 2021
كيف “بلغصَ” باسيل في أحداث طرابلس ليل الأربعاء؟
أحمد الأيوبي
أحمد الأيوبي

تشهد طرابلس استهدافاً متمادياً من السلطة وإجحافاً في الاستجابة للأزمات المتلاحقة التي تمرّ بها، وتعاملاً باستهتار منقطع النظير مع صرخات الاستغاثة التي صدرت عن أبنائها.

لهذا بدأت الاحتجاجات على فشل الدولة في إدارة جائحة كورونا واتخاذها قرارات بإقفال البلد من دون أن تأخذ بعين الاعتبار أوضاع محدودي الدخل ومن دون أن تؤمّن بدائل منطقية لآلاف العائلات التي يعمل معيلوها يومياً لتوفير قوت أيامهم الصعبة والمريرة.

فانفجرت شوارع المناطق الشعبية غضباً ورفضاً لهذه السياسات الظالمة.

ما حدث في هذا السياق كان طبيعياً ومتوقعاً وتعلم به أطراف السلطة، ومعظم اللاعبين على المسرح السياسي كانوا ينتظرون بدايات الانفجار في طرابلس ليتحرّكوا ويوظّفوا طاقاتهم وإمكاناتهم في الصراع الدائر اليوم حول تشكيل الحكومة وما بعدها.

وهكذا عادت طرابلس ساحة مفتوحة لتبادل الرسائل الساحنة بين حزبَي السلطة المتنازعين حول الحصص والتشكيلة الحكومية: التيار الوطني الحر وفوقه رئيس الجمهورية ميشال عون، والرئيس سعد الحريري وخلفه تيار المستقبل، وما تبقّى له من أنصار في المناطق ذات الأغلبية السنية، وبينهما “حزب الله” الذي يستمتع بتنافس الطرفين لإرضائه وبتخريب مدينة طالما سعى لتدميرها وتشويه صورتها.

يتّضح من خلال تحليل الكتل المشاركة في احتجاجات الأيام الماضية أنّ المجموعات التي عملت في إطار ثورة 17 تشرين حرصت على النأي بنفسها عن الصدامات التي جرت مع قوى الأجهزة الأمنية وحصرت تحركاتها بتظاهرات طالت منازل النواب.

بينما ظهرت في ساحة النور مجموعات من الفتيان ينقلها مشغِّلون يزوّدون أفرادها بتعليمات حول ضرورة الصدام مع الأجهزة الأمنية، بدءًا من قوى الأمن الداخلي، ثم الدخول بمواجهات مع الجيش إذا تدخّل في المواجهة.


هكذا عادت طرابلس ساحة مفتوحة لتبادل الرسائل الساحنة بين حزبَي السلطة المتنازعين حول الحصص والتشكيلة الحكومية


وبينما كان “منتدى طرابلس” يشارك بفاعلية في التحرّك السلمي، كان بعض المحسوبين عليه يشاركون في الصدامات، وفئة ثالثة خرجت من صفوفه وحسبت نفسها على رجل الأعمال بهاء الحريري انساقت في أعمال الفوضى. فسارع مكتبه الإعلامي إلى نفي علاقته بها وتجديد تأكيد انتهاء علاقته بالمنتديات، حاضراً ومستقبلاً.

لا ينفي هذا التفكيك لصورة المشهد وجود شبّان غاضبين من أبناء طرابلس في قلب هذه المواجهة، لكنّهم كانوا أقلية ومعظمهم حاول الظهور على شاشات القنوات التلفزيونية التي تولّت النقل المباشر للأحداث ليوصلوا رسائلهم الغاضبة والرافضة لتهميش الدولة وتقصير النواب، وقد ظهروا بوجوههم وهوياتهم المعروفة، لكنّ الأكثرية من المجموعات المنظمة للصدام، كانت تتألّف من شبّان ملثمين وحريصين على حجب هويّاتهم ووجوههم.

تحوّلت طرابلس إلى ساحة للصراع السياسي عكسه صراع الأجهزة الأمنية، فتحوّل الهجوم على قوى الأمن الداخلي رفضاً لسعد الحريري.

ورفض آخرون الصدام مع الجيش تأييداً لميشال عون، في إسقاطٍ مستهجن لصراع السلطة، بينما خرج البعض رافضين جميع الأحزاب ورموزها.

دخل العونيون دائرة العبث عن طريق رجل الأعمال (ج.ب.ن) الذي ظهر مع الإغلاق الكيدي لفندق “كواليتي إن”، كمرشح لجبران باسيل لإدارة معرض رشيد كرامي الدولي واستثمار الفندق وإحداث تغييرات في نظام المعرض تتيح بيع مساحات من أرض  لصالح أحد مشاريع باسيل “المرّيخية”.

يقوم رجل الأعمال هذا بتوزيع حصص تموينية بين الحين والآخر في طرابلس، واستقطب معه مجموعة من الشبان، ولم يلبث أن دخل في تفاصيل المشهد اليومي ليكتشف حجم الثغرات الهائلة في جسم المدينة.

ولهذا كانت له بصماته السلبية في أحداث الأيام الأخيرة، خصوصاً في دفع مجموعة فوضاوية تولّت مهمة التصعيد الكبير مع قوى الأمن الداخلي على “جبهة” اقتحام السرايا، الأمر الذي أفسح المجال لمنطق الردّ بالرصاص الحيّ.


تحوّلت طرابلس إلى ساحة للصراع السياسي عكسه صراع الأجهزة الأمنية، فتحوّل الهجوم على قوى الأمن الداخلي رفضاً لسعد الحريري. ورفض آخرون الصدام مع الجيش تأييداً لميشال عون، في إسقاطٍ مستهجن لصراع السلطة، بينما خرج البعض رافضين جميع الأحزاب ورموزها


كذلك لم يكن تيار المستقبل بعيداً عن مشهد الاستغلال السياسي وحاول تظهير صورة توحي بأنّ الاحتجاج هو احتجاج سني على طغيان الرئيس عون وجشع النائب باسيل مع تحييد واضح للحريري وتجاهل لمسؤوليته في وصول الأوضاع إلى هذا المستوى الكارثي في المناطق السنية.

وسجّلت مجموعات تستظلّ بغطاء الأمين العام للتيار الأزرق حركة واضحة في الشارع، بينما تسرّبت الاتهامات لشعبة المعلومات في طرابلس بأنّها وراء تحريك مجموعات من المتظاهرين، في حين بقي تعرّض مركزها لرمي قنبلة مثار غموض والتباس.

الأجهزة الأمنية الأخرى أيضاً بعيدة عن اللعبة؟ وقد كشفت الأحداث أنّ جهازاً آخر دفع بمخبرين له في معمعة الصّدام.

وقد انكشفت هوياتهم الأمنية عندما قام بعض الثوار بإسعاف أحدهم ونقله إلى المستشفى، ليتدخل أمن ذلك الجهاز ويبلغ الشبّان المبادرين إلى إسعاف المصاب بأنّ مهمتهم انتهت وأنّ هذا الشخص تابع لذلك الجهاز، طالباً مسح صور المصاب من هواتفهم والمغادرة فوراً.

المستغرب في سلوك الجيش هو تجنب مواجهة استهداف مراكز الدولة، وتحديداً سراي طرابلس ومخفر التل، وكيف يبقى الجيش متفرّجاً على دكّ أسوار السراي وإحراق المخفر، ويتأخر في التدخل إلى منتصف الليل؟ حين تولّى إبعاد شبّان حاولوا اقتحام المقرّ المركزي للدولة في طرابلس.

لماذا تكرّر مشهد إحراق المصارف في المدينة وتحوّلت الأجهزة الأمنية إلى شاهد زور عاجز عن المبادرة، وهل كان مطلوباً مع استخدام الرصاص الحيّ وقتل وجرح المحتجين أن يُدفع بعضهم إلى “الجنون” للقيام بردّات فعل “داعشية” ينجّم لها المشعوذون في السياسة والأمان؟!

المشهد في طرابلس ليل الأربعاء لم يكن “ثورياً” فقط.

على موجة الجوع ركبت أجهزة وأطراف سياسية، في محاولة لتحويل صرخات الجوع إلى قروش في لعبة القمار السياسية.

المصدر أساس