جاء الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بطريركاً على رأس الكنيسة المارونية خلفاً للكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، كتغيير سياسي رعته الفاتيكان، لتبتعد البطريركية فيه عن خطابها المتشدد تجاه النظام السوري وحلفائه من جهة، وعن موقفها المعارض للتيار العوني ومن حوله، من جهة ثانية.
وكان الراعي بطريركاً مسايراً جداً للنهج السياسي الذي طغى على البلد، والذي يقوده حلف التيار الوطني الحر وحزب الله، تحت شعار “حقوق المسيحيين” في الداخل، و”حماية الأقليات” في الإقليم، و”محاربة الإرهاب” عند الحدود.
وعلى هذا النحو يمكن القول أن وصول الرئيس ميشال عون إلى سدة الرئاسة حظي بمباركة كاملة من بكركي وسيدها.. تماماً كما حظي بها “التفاهم” بين التيار العوني وحزب الله، والذي كانت ترجمته الأيديولوجية في الحلف المشرقي ضد الأغلبية السنّية العربية.
أفضت السياسة الحاكمة هذه إلى إراحة حزب الله وطمأنته. لم تعد بكركي ذاك المنبر الذي صدر عنه بيان المطارنة الشهير في أيلول عام 2000، ولا ذاك المقر الذي يحتضن “لقاء قرنة شهوان”، ولا الصرح الذي يتبنى “الطائف” والذي دبّر “مصالحة الجبل”، ولا فيه ذاك البطريرك الذي يطالب بنزع سلاح الميليشيات.
بمعنى آخر، ارتاح حزب الله من صداع “المقاومة المسيحية”، كما من مخاطر القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 1559. وحظيت “وصايته” على السياسة والدولة بقبول عام، بعدما ضعفت وتبعثرت قوى 14 آذار.
على امتداد 15 عاماً، كان الانقسام اللبناني المترافق مع عنف الاغتيالات والخروج الميليشياوي إلى الشوارع، والمصحوب بالتعطيل لمعظم الاستحقاقات الدستورية: الانتخابات، انعقاد مجلس النواب، تأليف الحكومات.. إلخ، وتحت ظلال التهديد بالحرب الأهلية، غالباً ما كان يُعالج بما سمي “طاولة الحوار الوطني”، الذي هو ثمرة النظرية التي تبنتها حكومة فؤاد السنيورة (وخلفه 14 آذار) بتجنب الفصل السابع عبر إقناع المجتمع الدولي أن ذاك قد يؤدي إلى حرب أهلية وأن السلاح مشكلة داخلية يحلّها اتفاق الطائف نفسه، من جهة، وإقناع حزب الله بتقديم تنازل لشركائه في الوطن أفضل بكثير من مواجهة الخارج، من جهة ثانية.
وهي نظرية عمادها الظن أن لبنانية الحزب ستتقدم -بحكم القراءة العقلانية للواقع- على هويته الأيديولوجية الثورية العابرة للحدود.
ووفق هذا الظن الخاطئ، اعتقد معارضو الحزب أنهم يقدمون عرضاً من الصعب رفضه، طالما أنه يزاوج أخيراً بين “التحرير” و”الاستقلال”، ويحفظ سلاح “المقاومة” ويدمجه في الدولة ومنظومتها الدفاعية الرسمية. وبمعنى آخر، يمنح الطائفة الشيعية مكانة الشريك التأسيسي المتصدر.
لكن، كل جلسات الحوار الوطني الممتدة من العام 2006 إلى آخر نسخة اعتمدها الرئيس ميشال عون في صيف 2020، بقيت مقرراتها حبراً على ورق.
وأهم ما نتج عنها على نحو تقريري ملزم كان “إعلان بعبدا” في العام 2012. لكن سرعان ما قال قادة حزب الله: بلّوه واشربوا ماءه.
هذا المسار الطويل، المتزامن مع تعاظم أدوار حزب الله إقليمياً، ومع احتراق المنطقة، والتوسع الإيراني الحربي والعدائي في المنطقة العربية، والصدام الدائم مع الغرب، كان ينعكس لبنانياً عزلة متفاقمة مع العالم العربي وابتعاداً مؤذياً عن المجتمع الدولي، وانخراطاً باهظ الكلفة في “محور الممانعة”.
هكذا، أدى الانقسام اللبناني، تحت وطأة غلبة الحزب وحلفائه، إلى تكوين قناعة لدى الجماعات اللبنانية المختلفة يمكن وصفها بـ”التخلّي” (ربما اقتداء بمثال حزب الله نفسه)، أي الخروج من العقد الوطني ومرجعية الدولة، وفق غريزة الحصن الأهلي-الطائفي. وهذا ما أتاح كما لم يسبق من قبل استباحة الدولة ومقدراتها في أكبر عملية فساد وإفساد بات اسمها “المناهبة”.
مشروع الدولة أصبح بنظر الجماعات “قضية خاسرة”. وراح التنافس على حقوق المسيحيين وحقوق السنّة وحقوق الشيعة وحقوق الدروز.. إلخ، هو السياسة برمتها. وكل “حقوق” هي بالضرورة مضادة لـ”حقوق” أخرى.
هكذا، بات النظام السياسي الدستوري معطلاً بالكامل. وعملياً كان الفريق الغالب قد مزّق “الطائف” إرباً.
وفي خضم هذا الانهيار للبنيان الوطني، أدت العزلة بل العداء تجاه العالم العربي والمجتمع الدولي إلى فقدان لبنان لصلاته الحيوية بالعالم على نحو قاتل.
وبين المناهبة والعزلة راح الاقتصاد يقترب من صفر إفلاسه.
أسوأ من المصيبة الاقتصادية، كانت الحصيلة الفعلية لـ15 عاماً المنصرمة، ما قال عنه البطريرك الراعي: تغيير هوية لبنان.
بلد ينظر في مرآة ذاكرته ولا يتعرف على ذاته، اجتماعياً وثقافياً.. وسياسياً.
“خطيئة” بكركي والبطريرك نفسه طوال هذه الحقبة، كان التكفير عنها أخيراً بانتفاضة الراعي واستفاقته على الحصاد المرّ.
لبنان الذي تفتخر به “المارونية” كثمرة تاريخية يحتضر.
لقد أدركت البطريركية المارونية أن نظرية “الحوار الوطني” سقطت منذ زمن بعيد، وأن مسايرة سياسة المحاور والعزلة وصفة قاتلة للكيان.
ولذا كان التصميم على المزاوجة بين شعاري “الحياد” و”المؤتمر الدولي”. لكن هذا الإدراك، للأسف، جاء بعد فوات الأوان، على الأرجح.
فالشعاران غير قابلين للتطبيق، فلا إرادة دولية مستعدة لهكذا ورطة، خصوصاً أن المبادرة الفرنسية نفسها كمحاولة إنقاذية للنظام القائم فشلت تماماً.
ولا قناعة داخلية تتوافق على الذهاب إلى هكذا مؤتمر، ناهيك عن القبول الطوعي بمبدأ الحياد الذي لا يعني سوى نهاية أدوار حزب الله ومهمته الكبرى بالشراكة مع النظام الإيراني.
صحيح أن مبادرة بكركي سببت ثقوباً فاضحة في الغطاء المسيحي لنفوذ حزب الله وانتشاره الإقليمي، لكن هذا مجرد مصدر إزعاج لا مصدر خطر.
وعلى الأرجح فإن التشرذم السياسي المسيحي كفيل بإراحة الحزب من مهمة تطويق مبادرة البطريرك وإخماد انتفاضته.
وعسى أن نكون مخطئين.