يصعب إدراج زيارة البابا فرنسيس العراق، خارج محاولته إنقاذ ما بقي من مسيحيي المشرق العربي، يتقلّص عدد هؤلاء يوميًّا بفعل ما يدور في العراق نفسه وفي سوريا ولبنان، حيث بات وضع المسيحيين خصوصًا واللبنانيين عمومًا، مأسويًّا إلى أبعد حدّ.
ذهب البابا إلى العراق متحدّيًا كل الصعوبات، بما في ذلك تقدّمه في العمر، إذ تجاوز الـ84 عامًا. يتحدّى أيضًا انتشار وباء كورونا (كوفيد – 19). أصاب الوباء معظم العاملين في السفارة الباباويّة في بغداد، بمن في ذلك السفير نفسه، الذي كان قد لعب دورًا كبيرًا في الإعداد للزيارة.
كان يمكن تأجيل الزيارة.
لكنّ الإصرار عليها يؤكّد أهميّتها بالنسبة إلى الحبر الأعظم، رأس الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم. إنّها في الواقع زيارة مليئة بالرموز بدءًا باختيار العراق نفسه، ثمّ الإصرار على أن تكون بغداد منطلقًا لكلّ زيارة داخل العراق ونهايتها. زار بغداد والنجف وأور وقره قوش، والموصل وأربيل.
وعاد في كلّ مرّة إلى العاصمة العراقية.
أراد البابا فرنسيس بذلك تأكيد أهميّة بغداد وأهمّية مرجعية النجف، حيث التقى آية الله السيستاني، وأهمّية أور التي يُعتقد أنّ النبي إبراهيم، الأب الروحيّ لكلّ الديانات السماوية، وُلد فيها بحسب ما ورد في التوراة.
كانت أور حضارة عظيمة في التاريخ القديم (الحضارة السومرية). منها انطلقت حملات في اتجاه بلاد فارس.
الأكيد أنّ ذلك لن يُعجب المسؤولين الإيرانيين كثيرًا، مثلما لن تُعجبهم زيارة النجف. ذلك أنّ النظام في إيران يرى في “المرشد” المرجعية الشيعية الأهمّ، بصفة كونه “الوليّ الفقيه”.
ذهب البابا إلى العراق متحدّيًا كل الصعوبات، بما في ذلك تقدّمه في العمر، إذ تجاوز الـ84 عامًا. يتحدّى أيضًا انتشار وباء كورونا (كوفيد – 19). أصاب الوباء معظم العاملين في السفارة الباباويّة في بغداد، بمن في ذلك السفير نفسه، الذي كان قد لعب دورًا كبيرًا في الإعداد للزيارة
يبحث البابا فرنسيس عن الاعتدال. يمثّل الحكم في العراق حاليًّا، محاولة لأخذ البلد إلى الاعتدال.
هذا ما يعبّر عنه باستمرار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ورئيس الجمهورية برهم صالح، الذي ألقى خطابًا استثنائيًّا لدى استقباله رأس الكنيسة الكاثوليكية في القصر الجمهوري في بغداد.
ما الهدف من زيارة البابا للعراق؟ إذا وضعنا جانبًا شجاعة الرجل الذي يسعى إلى إقناع من بقي من مسيحيي العراق بالبقاء في أرضهم، يبدو ما يقوم به رأس الكنيسة الكاثوليكية مهمّةً شبه مستحيلة.
لم يبقَ في العراق أكثر من 250 ألف مسيحي في أحسن الأحوال، بعدما كان عدد هؤلاء نحو المليون في الماضي القريب.
لا شكّ أنّ هناك هجمةً على مسيحيي العراق الذين استهدفتهم “القاعدة” و”داعش”، كما استهدفتهم الميليشيات الشيعية المختلفة المدعومة من إيران، التي تطمح إلى الاستيلاء على أملاكهم في مناطق عراقية مختلفة، من البصرة إلى بغداد… إلى الموصل، المدينة التي احتلها تنظيم “داعش” طويلًا، وعبثت فيها بعد ذلك ميليشيات “الحشد الشعبي”.
مؤسف أنّ “الحشد الشعبي” صار جزءًا لا يتجزّأ من مؤسسات الدولة العراقية، وجيشًا رديفًا للجيش العراقي، بعدما لعب السيستاني دورًا في إعطائه شرعية في العام 2014. أفتى المرجع الشيعي الأعلى في النجف بذلك وقتذاك، بحجة الحاجة إلى مواجهة “داعش” في الموصل.
سيتوقف الكثير على نجاح حكومة مصطفى الكاظمي، التي وضعها البابا أمام مسؤولياتها، في تجاوز المرحلة الصعبة التي يمرّ بها العراق.
سيظلّ السؤال الأهمّ في كلّ وقت: هل من أمل في تحقيق ذلك، خصوصًا أنّ الأحداث الأخيرة أكدت أنّ الكاظمي يمتلك عقلًا نظيفًا بعيدًا كلّ البعد عن المذهبية والطائفية والتعصّب القومي؟ ملخّص ذلك هل تستطيع الحكومة العراقية إخراج العراق من الوصاية الإيرانية؟
ليس مطلوبًا أن يكون العراق معاديًا لإيران، بمقدار ما المطلوب استعادة العراق العراقي، أي العراق المستقلّ عن هيمنة “المرشد” علي خامنئي و”الحرس الثوري”، اللذين يعتبران البلد مجرّد تابع لإيران.
من الواضح أنّ رهان البابا فرنسيس على ذلك وعلى أنّ العراق، بمجتمعه المتنوّع، يمتلك تاريخيًّا كلّ المقومات التي تسمح له بأن يكون دولة تضع مصلحتها فوق كلّ مصلحة أخرى.
كان لكلّ مدينة ومنطقة عراقيّة ما يميزها في الماضي القريب. أي قبل العام 1958 لدى حصول الانقلاب الدموي على العائلة المالكة الهاشمية، وهو انقلاب حصل بتأثير من الأفكار التي روّج لها جمال عبد الناصر، الضابط الريفي، الذي اعتقد في العام 1956، أنّه انتصر على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بعد العدوان الذي شنّه الثلاثيّ على مصر.
جُنّ جنون العالم العربي في مرحلة ما بعد تأميم مصر لقناة السويس، ونجاحها في صدّ العدوان الثلاثي. صدّق العرب أنّهم حقّقوا انتصارًا عظيمًا.
لم يوجد سوى قلّة من الحكام العرب استوعبت أنّ الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور أوقف العدوان على مصر، وأنّ مصر خسرت، إثر طرد الجاليات الأجنبية من مدنها، الكثير من المقومات التي كانت تجعل تلك المدن فريدةً من نوعها، بغناها الفكريّ والثقافيّ والحضاريّ بكلّ المقاييس.
يبحث البابا فرنسيس عن الاعتدال. يمثّل الحكم في العراق حاليًّا، محاولة لأخذ البلد إلى الاعتدال. هذا ما يعبّر عنه باستمرار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ورئيس الجمهورية برهم صالح، الذي ألقى خطابًا استثنائيًّا لدى استقباله رأس الكنيسة الكاثوليكية في القصر الجمهوري في بغداد
ليس سهلًا عودة العراق بلدًا مزدهرًا يعيش فيه المواطنون في ظلّ المساواة.
كان آخر يوم أبيض في العراق يوم 13 تموز – يوليو 1958. في اليوم التالي كانت مجزرة قصر الرحاب، وكان الحكم العسكري ثمّ حكم البعث الذي كان في جانب منه اجتياح الريف للمدينة.
ما لم يستطع حكم البعث عمله، عملته الميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران، التي نفّذت عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في مناطق عدّة، وكانت في الواقع المستفيد الأوّل من ظهور “داعش” وقبله “القاعدة”.
جاء البابا فرنسيس إلى بلد جريح.
أضاء شمعة في الظلمة العراقية، وهي ظلمة زادت بعد الاجتياح الأميركي في العام 2003 وتسليم هذا البلد المهمّ على صحن من فضّة إلى إيران.
تبدو مهمّة فرنسيس شبه مستحيلة، لكنّه ليس ميؤوسًا منها كلّيًا. جاء ليقول إنّ ما يدعو إليه من سلام ومحبّة وإخاء وتسامح، ونبذ للتطرّف ورفض لاستخدام الدين لتغطية الإرهاب، وكلّ ما توصّل إليه مع شيخ الازهر في أبوظبي في شباط 2019، يجب أن ينسحب على العلاقة مع الشيعة أيضًا، شيعة العراق أوّلًا.
من هذا المنطلق التقى آية الله السيستاني الذي لم يتوقّف عن الدعوة إلى نبذ الانقسامات المذهبيّة. من هذا المنطلق جاء ليدعم حكومة مصطفى الكاظمي التي أثبتت أنّ هناك خطابًا وطنيًّا عراقيًّا لا يمكن تجاهله، وأنّ العراق لم ينتهِ بعد، وأنّ المسيحيين فيه من سريان وكلدان وآشوريين، لا يزال لديهم مكان، وإن صغير في هذا الشرق، الذي تُطبق عليه الظلمة كلّ يوم أكثر…
*ينشر بالتزامن مع صحيفة “العرب” اللندنية