من راقب وليد جنبلاط كيف سارع إلى بعبدا بعد خطاب الأمين العام لحزب الله، قد تعتريه الدهشة.
لكنّ جنبلاط كان كمن رأى عدداً من الزملاء يتعرّضون لـ”المسيّرات الكلامية المتفجّرة”، فقرّر، حين تم توزيع الورق، أن يدقّ على الطاولة: “I’m out، لا تحسبوا حسابي، هذه المرّة لن ألعب”.
لطالما كان الرئيس نبيه برّي هو “الظهير الدائم” لجنبلاط. ظهره وصديقه وسرّه.
حتّى في 7 أيّار، فتح له الطريق من كليمنصو، حيث كان مُحاصراً، إلى المختارة، حيث استعاد السيطرة على محازبيه، وقرّر “تسليم” طلال أرسلان أمن الجبل.
فماذا تنتظر من جنبلاط، حين سمع السيّد حسن نصر الله يخاطب مرجعيات السلطة، كلّها دون استثناء، بالتهديد والوعيد، وهذه المرّة لم يسلم حتّى الرئيس برّي؟
إذا كان برّي مشمولاً بـ”كلن يعني كلن” التي أطلقها “السيّد”، فلا تنتظر من جنبلاط أن للمواجهة.
اتصل فوراً بالنائب العوني الذي كان يزوره ويدعوه إلى بعبدا: “صرتُ جاهزاً”. وهكذا كان.
فما هي الرسائل التي وصلت إلى عين التينة من حارة حريك، وعلى الملأ؟
هي ثلاث رسائل قاسية، مرتبطة ببعضها البعض، وتدور حول مثل شعبيّ لبناني: “القلّة بتولّد النقار”، أي أن الحاجة تزيد المشكلات بين الأخوة وفي العائلة الواحدة وفي طول البلاد وعرضها طبعاً:
الرسالة الأوّلى: حمّل برّي جزءاً كبيراً من مسؤولية انهيار الليرة.
فقد قال بالحرف تعليقاً على عدم إقالة رياض سلامة: “قيل وقتها ونحن أصغينا إلى كلام من نثق به ونحترم رأيه، عندما قال لنا أنه إذا عزلنا الحاكم الآن سيصبح الدولار عشرة آلاف وخمسة عشر ألفاً، اليوم أصبح عشرة آلاف وخمسة عشر ألفاً”.
هكذا “لطش” الرئيس برّي، وكانت تلك اللطشة “تدور” على مواقع التواصل الاجتماعي منذ أسبوعين تقريباً، ردّاً على ما كان “يدور” بحقّ رواتب حزب الله التي بالدولار.
الرسالة الثانية: ردّ “السيّد” على ما انتشر عن لسان لبنانيين كثيرين، لكن أبناء حركة “أمل” أكثر من غيرهم داخل بيئة “الثنائي، من أنّ حزب الله “مش فارقة معو” لأنّ عناصره يقبضون رواتبهم بالدولار.
فأوضح أنّ معظم الرواتب بالليرة اللبنانية، و”أكثر من 80 % لا يتقاضون أصلاً”، واضعاً رواتب الدولار في إطار محدّد هو “المقاتلين في سوريا، وكانت رواتبهم 400 و500 دولار… قبل سنة ونصف وسنتين كانت الناس تسخر من راتبهم وإذا واحد يذهب ليتزوج لا يزوجوه – بعض الناس طبعاً – وعنده مشكلة أن يستأجر بيت ويؤمن بيت ويفرش بيت…”.
الرسالة الثالثة: هي مرتبطة بالأولى والثانية: قطع الطرق. وقد نهاها بقوله: “وصلت معي لهون”. وهو أعلى مستوى من التهديد الكلامي الذي يمكن أن يصل إليه نصر الله.
ومعروف أنّ بيئة حركة “أمل” هي التي انتفضت في ضاحية بيروت الجنوبية خلال الأسابيع الفائتة، وذلك بعد الارتفاع الجنوني في سعر الدولار أمام الليرة.
فـ”جيش برّي” الأساسي، بعشرات الآلاف، يتألّف من “موظفي الدولة”، مدنيين وعسكريين وثابتين ومياومين، إضافة إلى المناصرين من التجّار وأصحاب المصالح الصغيرة والمتوسّط وحتّى الكبيرة، الذين يحتمون بنفوذ برّي داخل مؤسسات الدولة.
وكلّ هؤلاء أصمّ أنينهم آذان الرئيس برّي، وكان الشارع هو آخر دوائهم.
نصر الله توجه إلى هؤلاء، قبل غيرهم، بالقول: “أُريد أن أَقول لقاطعي الطرق أنا خلال كل الفترة الماضية أدعو الناس إلى الصبر والتعاطي بحكمة والآن أدعوهم مجدداً للصبر ولكن أنا واحد من الناس الذي نفذ صبره، هذا الموضوع يجب أن تجدوا له حلاً”، وتابع: “هؤلاء يخدمون مؤامرة خارجية تريد إحراق البلد”.
هكذا وصلت الرسالة الثالثة، كخلاصة للرسالتين، الأولى والثانية: أنت حميتَ سلامة، هناك تحريض علينا وعلى دولاراتنا، وقطع الطرق لن نسمح به.
ليس المجال كافياً للحديث عن الخلاف الكبير بين برّي وميشال عون، ومن وراء عون هناك حزب الله بالطبع، حول ملف ترسيم الحدود البحرية، الذي يعتبر برّي أنّه يجب أن يحسم سريعاً من خلال التفاوض على 860 كلم بحرية مربعة، فيما يشدّ عون والحزب لاختراع “مزارع شبعا بحرية” جديدة، تعطّل أيّ حلّ، بأن يبدأ التفاوض من المطالبة بـ2200 كلم مربع.
وليس معروفاً حجم دقّة أحاديث من ينقلون أنّ الرئيس نبيه برّي غاضبٌ من حزب الله ومن الخطاب القاسي بحقّه، ومن السرعة التي يسير إليها لبنان نحو الانهيار، دون لجم السائق ميشال عون.
“القلّة” بتولّد النقار”، لكن أيضاً، عند الأزمات والكوارث الوطنية والوجودية، فإنّ الرئيس نبيه برّي يختار دائماً لبنان ومصالحه، على مصالح الدول الأخرى. وهنا تكمن المشكلة الكبيرة عند الحزب.