حكايتي مع المقاصد: روح المدينة

29 مارس 2021
حكايتي مع المقاصد: روح المدينة
رضوان السيد
رضوان السيد

عندما كان رئيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية الأستاذ فيصل سنّو يحتفي مع مجلس الأمناء بالذكرى الثالثة والأربعين بعد المائة لقيام جمعية المقاصد، قبل عشرة أيام، كان مئاتٌ من شابات المقاصد وشبانها ممن تطوعوا لنجدة أهلهم ومدينتهم بعد كارثة 4 آب 2020 يلتقون مع جمعيات العمل الخيري والمدني والإنساني الأخرى في سائر أنحاء المدينة لمراجعة التجربة، والنظر في إمكانيات متابعة الإسهام، وإعادة الإعمار، والتفكير في مستقبل الرعاية لآلاف المتضررين.

ولأنّ المصائب لا تأتي فُرادى، كما قال وليم شكسبير، فإنّ الكوادر الطبية والإدارية بمستشفى المقاصد، تلاقت من أجل النهوض بمرحلةٍ جديدةٍ من مراحل الطورائ بسبب وباء كوفيد -19 وقد استقبلت المستشفى بصمتٍ متحفزٍ وعازم الآلاف من مرضى الوباء، وتنادى من جديد أبناء المجتمع البيروتي لاندفاعةٍ جديدةٍ من اندفاعات التضامُن مع ضحايا الإصابة، ومع الكوادر المناضلة من أجل استمرار الحياة الإنسانية وانتصارها في المدينة العريقة.

وإلى هذا وذاك تابعت جمعية المقاصد مهمتها البارزة في التربية والتعليم في زمن كورونا وقبله، وأولاً في إعادة فتح المدارس في بيروت والأرياف، ثم في استحداث ودعم تجهيزات التعليم عن بُعد في الزمن الصعب، زمن الانهيارات التي عرفتها بيروت مراراً، وما عرفت الاستسلام، ولا عرفت الخضوع للأهوال بل التمرد عليها، والعودة إلى مجتمعها للاستنصار بروح المدينة من أجل الاستنقاذ والنهوض.

سمعتُ أحد المتحدثين بعد 7 أيار عام 2008 يشبّه بيروت بطائر الفينيق الذي ينهض بعد الجوائح والضربات باستمرار. وبيروت أكبر من ذلك بكثير منذ عرف العالم مدرستها في الحقوق والتي عانت من الزلزال عام 550م، ورابط فيها الإمام الأوزاعي في القرن الثامن الميلادي لحماية مسلميها ومسيحييها.. وإلى أن قامت فيها جمعية المقاصد عام 1878م ومعها عشرات المدارس والجامعات وكليات الحقوق، وعادت ولايةً ومدينةً عالمية عام 1888م. وكما تجاوزت بيروت مع جمعية المقاصد، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية (دار الأيتام الإسلامية)، وجامعة بيروت العربية كارثة العام 1982 والعام 2008، فستتجاوز كوارث وإخفاقات النخبة الحاكمة بين 2016 و2022، ودائماً بروح المدينة الحاضنة والناهضة.

حقبة بيروت في العقود الأخيرة كانت لسوء الأوضاع والأسى والأسف: حقبةَ صمودٍ ودفاع. وفي ذكرى التأسيس بعد 143 عاماً، قفزت إلى الذاكرة واليد العاقلة وثيقتان: وثيقة التأسيس عام 1878م، وإعلان بيروت للحريات الدينية الذي أصدرته جميعة المقاصد في 20 حزيران عام 2015.

في وثيقة التأسيس وقد سمّاها المؤسسون: الفجر الصادق، يذكرون أربعة عوامل ودلالات:

– النهوض بالتعليم الجديد من أجل الإقدار على المشاركة. فالوطن مثل الطائر الذي لا يطير إلاّ بجناحين، وقد تحفز أحد جناحي الطائر لدى الإخوة المسيحيين، ونحن نريد ونعمل بإنشاء جمعية المقاصد على أن تنبعث قوى الجناح الآخر لنتشارك في تحليق حَمام الوطن والمدينة وبنفس الأسلوب: إنشاء المدارس.

وأولى بشائر ربيع بيروت مع جمعية المقاصد افتتاح “كلية البنات” ليكون التشارك كاملاً اجتماعياً ونهضوياً، وبدون تفرقة بين الإناث والذكور.

– العامل الثاني أو الدلالة الثانية: تجديد التقليد الإسلامي نوعياً من طريق الوقف. فأوقاف المجتمعات الإسلامية هي التي صنعت كل التعليم في الأزمنة الكلاسيكية، وهي قادرةٌ من طريق الجمعيات النهضوية على القيام بالوظيفة الجديدة ما دامت إرادة النهوض متوافرة. يضرب الناس في العالم العربي، وفي العالم، المَثَل باللبنانيين في استماتتهم  فقراءً ومكتفين من أجل تعليم أبنائهم.

وها هي “جمعية المقاصد الخيرية” وهي عملٌ اجتماعي كبير، تتجه إلى كل المجتمع بمقتدريه ومحتاجيه، لصنع أجواء من التعاون والتضامن كما هي روح المدن العريقة دائماً.

– العامل الثالث والدلالة الثالثة: الوعي بالمسؤولية الشاملة. وهذا هو وعي كل النُخَب المدينية في المدن العريقة. فالمقاصد في سنوات التوسع ببيروت، ما اقتصرت عليها.

وقد حفزت أعمالها مباشرةً أو بشكل غير مباشر إلى خَلْق مثيلاتٍ لها في صيدا وطرابلس ودمشق وحلب وبغداد والإسكندرية والقدس وحيفا.

وبعض تلك المؤسسات احتفظت باسم “المقاصد”، وبعضها الآخر اتخذ أسماءً اُخرى لأسبابٍ محليةٍ وثقافية. ففي صيدا ما يزال اسم “المقاصد” قائماً، وكذلك مستشفى المقاصد بالقدس.

إنما لماذا المُضيّ بعيداً رغم الفائدة في إبراز روح النهوض العام؟

أنا من قرية في رأس الجبل (المتن الأعلى) اسمها ترشيش.

وقد تعلمتُ حتى الشهادة الابتدائية في مدرسةٍ للمقاصد بالقرية النائية تلك (1955-1961)، وما أزال أذكر اللوحة في أعلى باب المدرسة الصغيرة وقد نُقِشَ عليها: “شُيّدت هذه المدرسة لتعليم أبناء المسلمين في القرى في عهد رئيس الجمعية محمد عمر الداعوق عام 1933”.

وقد بنوا لنا أيضاً مسجداً صغيراً، كما بنوا مدرسةً ومسجداً لقرية المجدل بجوارنا، ولم يتردّدوا باعتبار أنّ القرويين هناك شيعة. وإلى اليوم فإنّ أصدقاء طفولتي هم من الشيعة والمسيحيين، إذ تعلمنا مع بعضنا في المقاصد. وسأعود إلى ذلك.

– العامل الرابع أو الدلالة الرابعة: إعطاء وثيقة التأسيس عنوان الفجر الصادق. ومعروف معنى ذلك في الطبيعة.

لكنّ الذي قصده الكاتبون، ومن بينهم الشيخ عبد القادر قباني أوّل رؤساء الجمعية، أنّه زمن الاجتهاد الجديد. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر تصاعدت الدعوات لفتح باب الاجتهاد بعد أن أُقفل على المذاهب الفقهية الأربعة.

ولذلك فإنّه بمقتضى الاجتهاد الجديد تظهر الحاجة الملحة إلى أنظمةٍ بديلةٍ للتعليم العصري – كما سمّوه – وعدم الاكتفاء بالتعليم القائم الذي تُشرف عليه الدولة العَلية، والذي تبين أنّ تحديثاته الجزئية غير كافية، ويتفوق عليه بمراحل تعليم الإرساليات في مدارسها.

فحتّى تعليم الدين في مدارس المقاصد المدنية ينبغي أن يتّخذ مناهج وأساليب جديدة.

إنما لماذا هذا الاسم: جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية؟

مع دعوات فتح باب الاجتهاد، كانت هناك أفكار تقليدية بالطبع لا تعارض تحديث مؤسسات الدولة والجيش، إنما ما الحاجة إلى “تحديث” المرفق الديني؟

لقد اكتشف دعاة الاجتهاد موضوع مقاصد الدين أو الشرع، باعتبارها داعية تجديدٍ وتحديث.

إذ “مقاصد الشريعة” كما يقول علماء أصول الفقه: صَون الحقوق أو الضروريات التي تحتاجها الحياة الإنسانية وهي: حقّ النفس (الحياة)، وحقّ العقل (التنشئة الصالحة والتعليم)، وحقّ الدين (حقّ كلّ إنسان في أن تكون له العقيدة التي يختارها بعد بلوغه سن الرشد)، وحقّ النسْل (في أن تكون للإنسان أُسرة شرعية)، وحقّ المِلْك (الحقّ في الملكية الخاصة الموروثة أو المكتسبة بالعمل المشروع).

ويقول الشاطبي المالكي: “إنّ الشريعة الإسلامية إنّما أُنزلت لصَون هذه الضروريات”. ويتابع: “وقد قيل إنّها مُراعاة في كل مِلّة”.

أي أنّ هذا هو هدف كلّ الأديان. ولذا فإنّه كما كان ضرورياً لحماية الضروريات الخمس تطوير صيغ معيّنة في الحكم والقضاء والتعليم والترتيبات الاجتماعية، في الأزمنة الكلاسيكية وما بعدها، فإنّه من الضروري وبحسب مقاصد الشريعة، ومن أجل صون الاجتماع البشري، انتهاج أساليب جديدة في كل شيء. لقد انتشرت هذه الأُطروحة انتشار النار في الهشيم في سائر الأنحاء العربية والإسلامية.

وعندما جاء الشيخ محمد عبده إلى بيروت منفياً بعد أن احتل البريطانيون مصر عام 1882، كانت جمعية المقاصد قد تأسست ونهضت وصار عندها (1884) خمس مدارس.

لكنّه كما قال فيما بعد أفاد من نواحٍ عدّة من المقاصد والجهات التعليمية الإسلامية والمسيحية الأُخرى.

ألقى محمد عبده دروساً في المقاصد، وربما كتب في بيروت صيغته الأولى لرسالة التوحيد (في التجديد الكلامي واللاهوتي).

إنّما الذي يتذكره أنّه أفاد ليس من اسم (المقاصد) وقد كان من دعاته بمصر، بل من الصفة: الخيرية! إذ كان المقصود ليس الصَدَقة العادية أوحتّى الزكاة، بل الخير العام أو ما هو لوجه الله خالصاً، وتطوّعاً ودونما فرض، ولأنّه كان صعباً على الناس القول: المقاصد الاحتسابية، أي التي لوجه الله دونما فائدة دنيوية في المقابل بل هو مقصد الخير العام لصون النفوس والعقول والأديان والحياة الأُسرية (بالتربية والتعليم)، ولذلك سمّوها (وهم علماء): المقاصد الخيرية.

ومحمد عبده عندما عاد من المنفى عام 1894 أنشأ جمعيةً بالقاهرة سماها: الجمعية الخيرية المصرية، بدلاًمن جمعية الإحسان.

لقد أطلْتُ في المعنى الوطني ومعنى التقدم الاجتماعي، والاستنارة الإسلامية لجمعية المقاصد الخيرية.

لكنّ رئيس الجمعية الأستاذ فيصل سنّو، وهو يذكر الصعوبات، ويشيد بالميزات والمنجزات ذكر: الاعتدال. والاعتدال كما التضامن وكما الإنجاز النوعي، هي مرتكزات العمران في العاصمة العريقة.

في العام 2015 وقد نزلت بلبنان والعرب نوازل أين منها الاحتلال… العالم كلّه كان يتحدث عن التطرف الإرهابي، وتصرفات القاعدة وداعش على كل شفةٍ ولسان، والأصدقاء قبل الخصوم، ينعَون على الطرابلسيين (كالعادة) وعلى البيارتة وعلى الصيادنة والعراسلة.. إلخ، التشدّد والإعراض عن الآخر الوطني والمسيحي.

حينها أقدمت جمعية المقاصد على عقد المؤتمر المقاصدي الأوّل للإصلاح والنهوض، وأصدرت “إعلان بيروت للحريات الدينية”.

يتضمن الإعلان سبعة بنود: حرية العقيدة والعبادة والتعليم، والحقّ في الحرمة والكرامة، والحقّ في الاختلاف والحقّ في التعدّد، والحقّ في المشاركة السياسية والمجتمعية، والالتزام بالمواثيق العربية والدولية، والالتزام بلبنان الوطن والدولة واحداً وحرّاً وديمقراطياً، والتزام المقاصد بثوابتها وبدورها في حرية التعليم وتقدمه، وفي استنارة الدرس الديني، وفي الولاء للوطن والدولة الوطنية.

ويختم الإعلان: “بيروت هي أم القوانين، وبيئة الحرية والإبداع، وكما أسهمت في صنع الدولة الحديثة والتقدم والحريات، تحرص على أن تظل بمسيحييها ومسلميها، وجمعية المقاصد معها وفيها، وفي هذا الزمن الصعب على العرب وعلى اللبنانيين، تريد المقاصد وتعمل على أن تبقى منارةً من منارات الاعتدال الإسلامي، والتقدم العربي، والسلام الإنساني”.

لقد صمدت المقاصد، وصمدت مؤسسات الرعاية (دار الأيتام)، وصمدت جامعة بيروت العربية في أقسى الظروف وأكثرها مشقة.

وقد أُضيفت إليها عشرات المبادرات البيروتية رجاء الإصغاء للاحتياجات المتزايدة، والتمكن والتمكين من أجل انطلاقة نهوضٍ جديدة.

في إحدى الأُمسيات بالجامعة اليسوعية بعد إعلان بيروت، الذي أعاد الأستاذ أمين محمد الداعوق بالمناسبة قراءته ، تذكّر أحد المتحدّثين أعلام المقاصد من عبد القادر قباني، وإلى عمر الداعوق، وإلى صائب سلام.

وتوقف عند الرئيس صائب سلام قائلاً: في أكثر سنوات النزاع اللبناني هولاً ظل صائب بيك يقول: “لبنان واحد لا لبنانان، والتفهم والتفاهم”. فإن لم يكن ذلك كله اعتدالاً واستنارةً فماذا يكون؟

يذكر صاحب كتاب “المدينة العتيقة” فوستيل دي كولانج أنّ أحد شعراء مدينة غرناطة الأندلسية قال بعد أن عاد إليها على أثر طول غياب: هواء المدينة يجعل المرء حراً!

لا حرية كحرية بيروت، ولا هواء كهوائها، ولا اعتدال كاعتدالها مناخاً وبشراً، ولا حافظ لروح المدينة الحرّة والمستنيرة كما تحفظها وستظل تحفظها إلى ما شاء الله: جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية.

المصدر أساس