حفلت الأيام الأخيرة في لبنان بظواهر بارزة تشير كلّها إلى تفاقم الاختلال والفوضى المتصاعدة في خمسة اتّجاهات:
الأول: إقبال الناس على التماس الغذاء والدواء، والطاقة والكهرباء، وإظهار المؤسسات والجهات الخيرية والمدنية تصميماً على التعويض والمواجهة لسدّ الاحتياجات العاجلة بقدر الإمكان. وتوجّه حزب الله إلى اتّباع خطة خاصّة في تلبية احتياجات بيئته المباشرة.
الثاني: ازدياد الاضطراب من جانب وزارة المال وحاكم المصرف المركزي في تحديد التوجّه للتصرّف في رفع الدعم عن السِلَع الأساسية (الغذاء والطاقة والدواء) مع عدم القدرة على ضبط مزاريب الهدر والتهريب، وفي الوقت نفسه تيئيس المواطنين من إمكان استعادة ودائعهم حتى في الزمن المتوسط والبعيد.
الثالث: تصدُّع المؤسسة القضائية وانهيارها، سواء لجهة تراتبية السلطات، أو لجهة القدرة على استعادة ثقة المواطنين في اللجوء إليها، كما بدا في التحقيقات بشأن انفجار المرفأ، وكما يبدو الآن في تصرّفات القاضية غادة عون.
مخاض الرئاسة اللبنانية فقد بدأ وهو مستمرٌّ لعامٍ وأكثر. وكما لم يسمح عون بانتخاباتٍ رئاسةٍ لغيره عام 1988-1989، إلى أن استطاع حافظ الأسد طرده من لبنان بموافقة الدوليين، فإنه سيحاول أن لا يسمح برئيسٍ غير جبران باسيل بعده عام 2022، إنّما من سيطرده هذه المرة؟!
الرابع: ازدياد الاختلال في السياسة الخارجية للبنان، كما بدا في تصرفات رئيس الجمهورية وصهره في ملف ترسيم الحدود البحرية، سواء مع إسرائيل أو مع سورية.
الخامس: العجز المتفاقم في ملفّ أو موضوع تشكيل الحكومة، وهي عماد السلطة التنفيذية، التي من المفروض في حال تشكيلها أن تعمل على وقف الانهيار في كل المجالات، وأن تتصدّى للاختلالات البنيوية بالإصلاحات الجذرية، وأن تتمكّن من التوجُّه نحو المجتمع الدولي طلباً للدعم والمساعدة.
كلّ هذه الظواهر والمظاهر للعجز والاختلال والإنكار، مصدرها في الشهور الأخيرة أمران اثنان:
الأول: تصعيد حزب الله للمواجهة مع العالم الغربي، وفي طليعته الولايات المتحدة، من أجل الضغط في الملف النووي، بإظهار أنّ الحزب يرتهن لبنان في سياساته وقطاعاته إلى أن تمشي المفاوضات بين أميركا وإيران على النحو الذي ترغب فيه جمهورية الملالي. وما يفعله الحزب في لبنان تفعله الميليشيات التابعة لإيران في العراق وسورية واليمن.
الثاني: إصرار رئيس الجمهورية على استعادة الزمام لصالح صهره جبران باسيل بالتعطيل والخروج على الدستور، ومنع تشكيل الحكومة ما لم يكن هو وصهره مسيطرين عليها.
وقد كان عون مصرّاً دائماً على السيطرة على كل شيء، لكنّه اليوم ومع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة وتضاؤل حظوظ صهره إلى حدودٍ بعيدة، صار أمر باسيل شغله الشاغل أو الأوحد.
أمّا أسلوب حزب الله في الدفش باتجاه الانهيار، أو التهديد به، فيتمثّل في منع كل توجّهٍ لإعادة السيطرة على الأزمة من جهة، ومن جهةٍ أُخرى إظهار أنّه يملك “حلّاً خاصّاً” لجماعته وأنصاره، وذلك من أجل “تصبيرهم” لحين يأتي هو بالفرج عندما يؤون الأوان، وبعد أن يسقط الجميع، وتفوز إيران في ما بين طهران والصين.
في حين يتمثّل أسلوب الرئيس وصهره في التعطيل التخريبي لكل ما يقع تحت يده أو لا يقع، وممارسة الإنكار والضرب بالمباشر، مثل المنع من تشكيل الحكومة، وتصديع القضاء، وتخريب ملف ترسيم الحدود البحرية، وكل ذلك، كما سبق القول، بالمباشر. ومن ذلك تلك الحملة على حاكم المصرف المركزي، ونصرة خريطة الجيش لترسيم الحدود البحرية، ثم التراجع عنها مع هايل، رجاء خدمة الصهر.
هناك حرب جديدة، على مستوى الجمهور واحتياجاته، وعلى مستوى النُخَب السياسية المعنية بالرئاسة. لكنّ أحداً لا يستطيع الجزم بالأدوات المستخدمة أو التي ستُستخدم
هل من تنسيقٍ بين الحزب والرئيس؟
التنسيق عامٌّ بالطبع، بل إنّ الرئيس وزعيم الحزب يتبادلان أحياناً وظيفة وأعمال البارافان، أحدهما للآخر. بيد أنّ في الأولويّات تفاوتاً. فمصالح جبران باسيل لا تهمّ الحزب بقدر ما تهمّ عون. وعون مضطرّ إلى مجاملة الأميركيين والفرنسيين، والحزب يريد مغالطتهم الآن. لكنّ التفاوض مع هؤلاء يبقى بيد إيران وليس بيده على أيّ حال.
مخاض التفاوض بين الإيرانيين والأميركيين واعدٌ للإيرانيين، لكنّه مخاض طويل. لكن حتّى لو تقدّم التفاوض فإنّ التحدّي الإسرائيلي لن يتضاءل، وهو عبءٌ يتحمّله الحزب وحده في الظاهر على الأقلّ، ومن ورائه لبنان واللبنانيون.
أمّا مخاض الرئاسة اللبنانية فقد بدأ وهو مستمرٌّ لعامٍ وأكثر. وكما لم يسمح عون بانتخاباتٍ رئاسيةٍ لغيره عام 1988-1989، إلى أن استطاع حافظ الأسد طرده من لبنان بموافقة الدوليين، فإنّه سيحاول أن لا يسمح برئيسٍ غير جبران باسيل بعده عام 2022، لكن من سيطرده هذه المرّة؟!
إذن المخاض طويل، ويتجاوز العام الواحد، وبالطبع يستطيع زعيم الحزب وفخامة الرئيس التحمّل، بخلاف الأوساط الشعبية والسياسية. لكنّ الزعيم والرئيس نافدا الصبر أيضاً. زعيم الحزب هدَّد بالحرب الأهلية أو أنذر بها. ورئيس الجمهورية قال إنّنا ماضون إلى جهنّم إن لم نسلّم بحلوله، ولا حلَّ في نظره غير صهره.
نعم، هناك حرب جديدة، على مستوى الجمهور واحتياجاته، وعلى مستوى النُخَب السياسية المعنية بالرئاسة. لكنّ أحداً لا يستطيع الجزم بالأدوات المستخدمة أو التي ستُستخدم. فالطائفية التي يريد الرئيس استخدامها ليست هذه المرة سلاحاً فعّالاً بسبب مواقف البطريرك بشارة الراعي المغايرة لمواقفه والمناقضة لها، وبسبب وعي جميع اللبنانيين للمخاطر المحدقة بالجميع. أمّا السلاح للتشبّه بالحزب فليس أداةً متاحةً على الرغم من زعم زعيم الحزب بإمكان ذلك.
وهكذا لا يبقى للاستخدام إلاّ التعطيل والتفخيخ وضرب المؤسسات، والدور على الأجهزة الأمنية والعسكرية بعد الجهات المالية والمصرفية. وللأسف، سيتغذّى الإعلام ووسائل التواصل يومياً بخروجات الرئيس وصحبه، وسيقلُّ تركيزها على الحزب وتصرّفاته. ولكن، كما سبق القول، ستظلّ الحرب قائمةً على قدمٍ وساق كما يقال.
لكنْ هل هي حربٌ أهلية؟ أم هي حربٌ على ما تبقّى من الدولة ومؤسساتها، يُدفعُ إليها الجمهور تارةً، وتُدفع إليها المؤسساتُ تارةً أخرى؟
وإن لم نصدّق فلنستمع إلى نصيحة وزيرة العدل العظيمة التي لا تريد إيقاف مدّعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون عند حدّها، بل تريد أن يثور القضاء على نفسه.
و”غادة عون هي الثورة المطلوبة بذاتها”(!).
إنّنا إذن بالفعل بين جحيم الرئيس وبين عصفوريّة غادة عون الثورية الكاسحة.
وتتساءلون: كيف تقع حربٌ؟!