لعل الرئيس ميشال عون، في لاوعيه، يطلب عزله من منصبه.
يستفز بقية الطبقة السياسية ويتحداها أن تتجرأ على العمل لإقالته، بحجة عدم تكيفه مع الرئاسة الاولى.
فإذا نجح يكون قد إرتاح من تعب المسؤولية، على ما يجاهر هذه الايام أمام زواره.
وإذا فشل يكون قد حصل على تفويض جديد، يخدمه في الشهور ال18 المتبقية من عهده.
ربما، يعرف عون أنه لا يتصرف الآن كرئيس دولة، بل كقائد لواء متمرد في الجيش، يستخدم صلاحياته المحدودة، وروابطه الوثيقة مع بعض الوزراء والنواب والضباط والقضاة، لكي ينفذ واحدة من أكبر عملياته الانتقامية في زمن السلم الأهلي، ضد غالبية التقليد السياسي الذي تواطأ عليه، لمحاصرته في قصر بعبدا وتجريده من آخر سلطاته، ومسّه في شرفه العسكري-السياسي، المهدور منذ أن إستجدى الرئاسة الاولى.
طوال أربع سنوات ونصف السنة من عمر العهد، تعرض عون، حسب تقديره، لأبشع أنواع الظلم والأذى، الشخصي والسياسي، بدأت بقصص الطائرات الخاصة واليخوت والعقارات التي لا حصر لها والاملاك التي لا تحصى لأفراد عائلته، وإنتهت بتحميله مسؤولية إفلاس الدولة ومؤسساتها، وخروج المصرف المركزي والقطاع المصرفي برمته على القوانين.. وهو من هذه التهم براء، وإن كان يجوز عليه الاتهام بالتوريث، وبالخطايا المرتكبة في قطاع الطاقة والمياه والاتصالات، ومعها جزء من المسؤولية الجماعية عن كارثة إنفجار المرفأ.
عون، المظلوم، والمحروم من أي حليف أو نصير، إختار اللجؤ الى ذاكرة الحرب الاهلية وذكرياتها، وقرر الانكفاء في قصر بعبدا، ليطلق من هناك حملة قصف عشوائي على الجميع، يودع بواسطتها الرئاسة والوراثة وحتى “الكنيسة” التي إنشأها بوصفه مرسلاً لإنقاذ مسيحيي الشرق وحماية وجودهم ودورهم وحصصهم، وجعل منها تياراً عريضاً، بات يتعذر أن يصمد بعد رحيله، مثلما يصعب أن يحتفظ بالمقعد النيابي للوريث المعيّن.
إستخدامه الحالي للقاضية غادة عون، على هذا النحو العجيب، يندرج في باب الطرائف والمساخر، أكثر مما يُدرج في باب النكاية والثأر.
هو دليل على أن الرئيس القوي لم يعد لديه من أدوات السلطة سوى تلك الورقة المتطايرة، التي كان يمكن ان تصلح في بداية العهد لا في نهايته، على الاقل كوسيلة لترهيب الفاسدين والظالمين.. والتي لا يزال يمكن ان تكسب شعبية واسعة، إذا ما إستغلت لبناء “نظام قضائي” لمكافحة الفساد، لا لإفراغ النظام القائم من محتواه ودوره.
الرئيس لا يبحث عن معركة دونكيشوتية، بل هو يخوض معارك ثأرية يختم بها سيرته المتهالكة.
وهنا تصبح الخشية الراهنة على القضاء، مجرد مثالٍ لما يمكن ان يفعله عون في بقية القطاعات الرسمية، التي لا يزال الموقع الرئاسي يسمح له بإستخدامها، بشكل أو بآخر.
ثمة من يراجع الدستور اليوم، لكي يتحقق من الصلاحيات والادوات والاجهزة التي يمكن للرئيس، الذي لا يشعر أصلاً بالقيود الدستورية، أن يلجأ إليها لكي ينتقم.. لا أن يكتفي على سبيل المثال بالتشهير، كأن يرسل الجباة الى بيت الوسط لطلب تسديد فواتير كهرباء مستحقة، أو يوجههم الى عين التينة لطلب تسديد فواتير هاتف غير مدفوعة، أو يبعث بهم الى معراب لطلب تسديد رسوم عقارية قديمة، أو الى المختارة لطلب دفع ضرائب معلقة..أو حتى أن يرسل الاجهزة الامنية الى الضاحية الجنوبية، لضبط السلاح غير الشرعي.
بعد تجربة القاضية عون، لم يعد هناك حدود لما يمكن أن يخطر في بال الرئيس. ثمة من لا يستبعد ان يحاول ان يختبر الجيش وقوى الامن والامن العام وقدرة هذه المؤسسات على التجاوب مع حملته الوداعية، التي تجسد أحقاده وكراهياته الموروثة منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي.. والتي كانت ولا تزال السبب الجوهري في رواج فكرة سابقة عن عدم أهليته للمنصب الرئاسي، وفي ترويج فكرة راهنة عن أن الوقت قد حان لتنحيته، وإلا فإن الضرر الذي يمكن أن يلحقه بالجمهورية الهشة، لن يعوض أبداً.