مع بداية انهيار الليرة اللبنانية، وعلى وقع تظاهرات 17 تشرين، كان المبنى لا يزال قيد الإنشاء.
كان ورشةً، وكنتُ، يوميّاً، في طريقي إلى العمل، أتابع تقدّم العمل فيه.
بدا لي مدهشاً هذا التطور السريع في صعود المبنى المؤلّف من ثلاث طبقات، وبدأ يدهشني أكثر فأكثر، مع ظهور معالمه الخارجية.
هذا الأسلوب الهندسي الحديث في صبّ الإسمنت، ليتشكّل منه، من دون الاعتماد على الحجارة، أساس البناء وجدرانه وواجهته الخارجية.
مبنى إسمنتي بالكامل، مصبوب كما لو كان تمثالاً في قالب.
ومع ما كان يحدث في البلد، حدست أنّ المبنى لن يكتمل أبداً، وأنّ أصحابه، لا شكّ، سيستسلمون للأزمة ويوقفون البناء.
كنت أنتظر أن أمرّ يوماً ما، في طريقي إلى العمل، أو في طريقي إلى اللاعمل، لأجد المبنى متروكاً، غير مكتمل، بلا عمّال ولا ضجيج آلات.
هكذا كما تُركت مبانٍ كثيرة قيد الإنشاء في الحرب، لتقضم منها القنابل، أو يأكلها عشب النسيان.
بدا لي المشروع بلا أفق.
من ذا الذي يستثمر في لحظة الانهيار؟ وأين؟ على تقاطع طريق يوصل إلى القصر الجمهوري.
كيف يجرؤ على الحلم والطموح في بلاد تضمر، وتذوي كشمعة في ظلام؟
مبنى إسمنتي بالكامل، مصبوب كما لو كان تمثالاً في قالب. ومع ما كان يحدث في البلد، حدست أنّ المبنى لن يكتمل أبداً، وأنّ أصحابه، لا شكّ، سيستسلمون للأزمة ويوقفون البناء
كانت الأيّام تمرّ، والأزمة تتفاقم والبناء يرتفع، معاكساً الأزمة. شيء أشبه بولادة في خضمّ جنازة.
وكنت أرى المولود كيف يحبو، وكيف يكبر، وكيف يقف ويمشي، على وقع العويل والبكاء والجثث.
ورحت أتخيّل أنّه لن ينجو. هذا “الطفل” الإسمنتي سيموت مسحوقاً تحت أقدام المعزّين. لن ينجو، أقول، وأنا أشاهد نموّه المدهش، واشتداد “عوده”، واكتمال ملامحه.
ثم غبت مع من غابوا واختبأوا بعدما أطلّ وحش الكورونا.
انسحبت إلى البيت، إلى الحجر “الصحي”، والعمل من المنزل، حتى نسيت لفترة كيف أجلس خلف مقود، وانقطعت عن المرور في الطريق حيث المبنى.
غبت لشهور، وحينما خرجت مع من خرجوا، بعد فكّ الحجر، مررت من هناك، وكان همّي أن أرى مصير المبنى بعد الحجر، وإذا كان قد توقّف عن النمو، واستسلم مثلنا جميعاً إلى القهر والأسى.
فكّرت أنّه لن ينجو، وأنّه سيُحنّط على الحال التي وصل إليها، كهيكل عظمي لم يكتب له أن يكتسب لحماً ودماء تضخّ في عروقه.
لكنّه كان قد اكتمل.
اكتمل وصارت له واجهة زجاجية وستائر تردّ الشمس.
وكانت سيارات متوقّفة أمامه.
كان شيئاً أشبه بمعجزة: مشروع استثماري يكتمل “نموّه” في هذه الظروف، وعلى طريق القصر الجمهوري، الذي يسكنه الرئيس ميشال عون.
في طريق عودتي من العمل توقّفت مليّاً أمام المبنى. توقّفت لأرى ماهيّة هذا المشروع الذي يتحدّى الظروف.
كانت الستائر مرفوعة بعد انخفاض الشمس.
من خلف الزجاج الضخم يتبدّى واضحاً “المشروع” الاستثماري الجريء الذي يعاند الانهيار. كانت في الواجهات عارضات (مانوكانات) بلاستيكية بأطراف صناعية، ومعدّات طبية تتّصل بالكسور والبتر والإعاقات الجسدية، بالإضافة إلى كراسٍ مدولبة، بأشكال وأحجام وموديلات مختلفة، معروضة في الصالة.
في هذا العهد “القويّ”، وحده هذا النوع من “الاستثمار” في مستقبلنا القاتم، والمرعب، يزدهر. وحدها الحرب، تزدهر على طريق القصر الجمهوري.
أمّا كلّ ما تبقّى، فخراب.